أنا أيضا, مثل كثيرين غيري, لم أفهم زيارة مرشد جماعة الإخوان المسلمين لشيخ الأزهر في هذا الوقت الراهن وفي هذه الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد. بالطبع لم تكن زيارة عادية. فهي الزيارة الأولي التي يقوم بها مرشد الجماعة التي بدأت نشاطها منذ ثلاثة وثمانين عاما للأزهر الذي تأسس منذ أكثر من ألف عام. ونحن نعرف أن العلاقات لم تكن علي مايرام بين الأزهر والجماعة طوال العقود الثمانية الماضية وحتي اشتعال ثورة يناير التي كان للدكتور الطيب موقف يختلف عن موقف الإخوان. فما الذي جد لينتقل الطرفان من القطيعة إلي التزاور والتواصل؟ والزيارة أيضا لم تكن شخصية, وإنما هي زيارة مؤسسة لمؤسسة. مرشد الإخوان من جانب ومعه وفد مختار من قادة جماعته, وشيخ الأزهر من جانب آخر ومعه وزير الأوقاف وعدد من كبار المسئولين والعلماء في الأزهر الشريف. ولأن الزيارة ليست عادية وليست شخصية فقد قدمها الاعلام المقروء والمسموع والمرئي للجمهور كما لو أنها حدث قومي لايهم الإخوان والأزهريين وحدهم, بل يهم المصريين جميعا. وقد أعلنت الصحف عن الزيارة قبل أن تقع, وتابعتها بعد وقوعها ووضعت أخبارها في صدر صفحاتها. وقد تحدث شيخ الأزهر عن الزيارة فقال إن هناك قواسم مشتركة بين الأزهر وجماعة الإخوان فلم نفهم ماقصده بهذه العبارة. لأن الجماعة غير الأزهر, ووظيقة الجماعة ونشاطها يختلفان كل الاختلاف عن وظيفة الأزهر ونشاطه. الأزهر مؤسسة علمية من مؤسسات الدولة تقوم بتدريس علوم اللغة والدين وتمد الدولة بما تحتاج إليه في رعايتها للشئون الدينية. أما الجماعة فمنظمة أهلية متعددة الاهتمامات تتخذ في معظم الأحوال من الدولة ومن نظامها وقوانينها وسياساتها مواقف سلبية.تهتم لاشك بالدين, لكن من حيث هو علم, بل من حيث هو سياسة تشتغل بها فتحالف قوي وتخاصم قوي أخري, وتدخل الانتخابات, وتؤلف الأحزاب.. والقواسم المشتركة بين الأزهر والإخوان محدودة جدا, ولاشك أن غير المشترك بينهما أكثر وأخطر من المشترك. ولو قارنا بين مواقف الطرفين في الموضوعات والأحداث التي شغلتنا طوال العقود الماضية لتبين لنا أن هذه القواسم التي يتحدث عنها الدكتور الطيب لم تكن دائما مشتركة, فقد كان الاخوان في معظم المراحل الماضية في حرب مع النظام لم تخل من الدماء. وكان الأزهر دائما سندا للنظام القائم. ماالذي تغير؟ نستطيع أن نقول إن مصر الآن تمر بمرحلة مابعد نظام سقط, وما قبل نظام لم يقم بعد. وعلي هذا فالحكام الذين كان يخاصمهم الإخوان ويساندهم الأزهر لم يعودوا موجودين في المرحلة الراهنة واذن فالخصومة التي كانت بين الاخوان والأزهر بسبب مواقفهما السياسية المتعارضة أصبحت غير ذات موضوع. لكن هناك موضوعا آخر لم يلتفت إليه الطرفان اللذان تصالحا,وكان المنتظر من الأزهر خاصة أن يلتفت اليه ويعمل له ألف حساب وهو مصر التي تمر الآن بمرحلة فاصلة في تاريخها يلعب فيه الاخوان دورا لايتفق الكثيرون معه ولايطمئنون لنتائجه التي يمكن أن تكون مدمرة. فالدولة المدنية مهددة بالدولة الدينية.والجماعة الوطنية مهددة بالفتنة الطائفية التي ستشق الأمة الواحدة أمتين: مؤمنين وكفار, مسلمين وذميين. والدستور مهدد, وحقوق الانسان, والنهضة الحديثة كلها مهددة, ومصر مهددة بالعودة إلي عصور الظلام. هذا هو مايريده الاخوان لمصر, فما الذي يريده الأزهر لها؟ وأنا لا أشك في أن الزيارة تمت بمبادرة من جانب الإخوان بعد أن شكلوا حزبهم الذي سيدخلون به الانتخابات القادمة التي قرروا أن يقنعوا فيها بالحصول علي خمسين في المائة فقط من مقاعد البرلمان القادمة, مع أنهم قادرون هكذا يريدون أن يقولوا علي الفوز بأكثر من هذه النسبة. غير أنهم سوف يتصدقون علي غيرهم من الأحزاب بالزيادة التي قرروا أن يتخلوا عنها للآخرين مكتفين بالمشاركة في هذه المرحلة التي يثبتون فيها خطاهم قبل أن ينتقلوا للمغالبة. أو بعبارة أخري لهم أيضا, المرحلة الراهنة لامتلاك الأرض, والقادمة لاقامة الحدود! ماهو دور الأزهر في هذه الخطة الإخوانية؟ دور الأزهر في هذه المرحلة الانتقالية أن يقف الي جانب الإخوان الذين يستعدون الآن ليتولوا السلطة ويقيموا في مصر دولة دينية, فهل يري الدكتور الطيب أن مشروع الاخوان السياسي يعطيهم الحق في أن يكونوا للأزهر شركاء ويعطي شيخ الأزهر الحق في أن يتحدث عن القواسم المشتركة التي تجمعهم بالأزهر؟ أريد باختصار أن أقول إن زيارة وفد الإخوان لمشيخة الأزهر خطوة في خطة متعددة المراحل متشابكة الخيوط. والأزهر عنصر أساسي في هذه الخطة أو وسيلة من وسائلها. لأن الأزهر هو المرجع الديني لعامة المصريين المسلمين الذين يتلقون أصول دينهم من رجال الأزهر, ويستفتونهم في أمور دنياهم, ويأتمون بهم في المساجد, ويقرأون مايكتبونه في الصحف, ويسمعون مايقولونه في الاذاعات. فبإستطاعة الأزهر أن يكون عاملا مؤثرا في الانتخابات القادمة التي يريد الاخوان أن يضمنوا نتائجها. صحيح أن الاخوان اختبروا قوتهم أكثر من مرة, واطمأنوا لقدرتهم علي الحركة والتأثير بأنفسهم, ودون حاجة ماسة لجهة مساعدة. لكن المشروع الاخواني هذه المرة طموح جدا, والعمل من أجل الوصول للسلطة غير العمل لتنظيم مظاهرة أو للحصول علي عدد من المقاعد في البرلمان. ولاشك في أن نسبة لابأس بها من المصريين تستمع الآن للاخوان وتتعاطف معهم ولاتري سواهم, لكن نسبة لم تقدر بعد من المصريين تتشكك في نوايا الاخوان وتتذكر تاريخهم فتشعر بالقلق وتخاف علي مصير البلاد اذا وصلوا إلي السلطة, خاصة والمخاوف المنتظرة ليست مجرد توقعات وانما هي وقائع. وقد رأينا ونري ماحدث ويحدث في قنا وأبوقرقاص وامبابة, وهنا يأتي دور الأزهر صاحب النفوذ الروحي المتغلغل في كل الأوساط ليخفف من قلق المصريين ويعطي خطة الإخوان دفعة تكتسب بها اعترافا أوسع وتصبح خطة المسلمين عامة وليست خطة الاخوان المسلمين فحسب. هل هذا هو الهدف من الزيارة التي قام بها المرشد لشيخ الأزهر؟ إذا كان هذا هو الهدف فماهو موقف الأزهر مما يدعوه إليه الإخوان؟ وماهو موقفه مما ندعوه نحن إليه, وهو ألا يتدخل في السياسة, وألا يتبع طرفا بالذات, وأن يخلص للعلم وحده,وأن يكون للمسلمين جميعا وللمصريين جميعا مسلمين ومسيحيين. فالأزهر ليس مجرد معهد ديني, وإنما هو تراث مصري عريق, والاسلام الذي يسهر الازهر علي تدريس علومه من دين وثقافة جامعة يتأثر بها المسيحي المصري كما يتأثر بها المسلم. واللغة التي ينطق بها الأزهر ويحفظ آدابها هي اللغة التي تنطق بها الكنيسة القبطية وينظم بها البابا شنودة أشعاره. والمسيحية أخت الإسلام. والقواسم المشتركة إذن بين الأزهر وبين أي مصري ليست أقل من القواسم المشتركة بينه وبين الاخوان. وإذا كان الأزهر قد تحرر من انحيازه للنظام الذي سقط فهي فرصة سانحة يستعيد فيها الأزهر استقلاله وحضوره ومكانته السامية, وينأي بنفسه عن تقلبات السياسة اليومية ليتمكن من حراسة المثل العليا التي يمثلها والفضائل التي يريد أن يشيعها في حياة المصريين. نعم, هي فرصة يراجع فيها الأزهر دوره الذي أداه في حياتنا طوال القرن الماضي ليؤكد مافيه من إيجابيات ويتخلص مما فيه من سلبيات. إن النهضة المصرية الحديثة مدينة للأزهر بالكثير. مدينة لشيخ الأزهر حسن العطار الذي وقف في بدايات القرن التاسع عشر يطالب بتغيير أحوال البلاد وتجديد المعارف التي ليست فيها. ومدينة للطهطاوي تلميذ العطار أول من وصل ثقافتنا بالثقافة الأوروبية الحديثة. ومدينة للمرصفي أستاذ البارودي مجدد الشعر العربي. ومدينة للامام المجتهد محمد عبده, ولتلاميذ الامام طه حسين, وعلي عبدالرازق, وشقيقة مصطفي عبدالرازق. لكن السلبيات موجودة كذلك في الصراع الذي نشأ بين المصريين المدافعين عن الدستور وبين الملك فؤاد في أعقاب ثورة9191 وقف شيوخ الأزهر إلي جانب الملك المستبد. وعندما ألغي الأتراك الخلافة وأعلنوا الجمهورية وفصلوا الدين عن الدولة وجه الأزهر الدعوة لتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين مما كان سيؤدي الي تقويض أركان الدولة المدنية والنظام الديموقراطي. وكما وقف الأزهر مع الملك فؤاد في صراعه مع القوي الديموقراطية وقف مع الملك فاروق الذي حاول الشيخ المراغي أن ينصبه ملكا في حفل ديني تقليدا لما كان يحدث مع الملوك الكاثوليك الذين كان يقوم بتنصيبهم بابا روما. وقد وقف النحاس باشا ضد هذه المحاولة وأصر علي أن يكون التنصيب في البرلمان وأن يتلقي الملك تاجه من نواب الأمة. وفي المعارك التي نشبت بين المفكرين المصريين وبين القوي الرجعية وقف الأزهر الي جانب هذه القوي كما فعل مع طه حسين عندما أصدر كتابه في الشعر الجاهلي ومع علي عبدالرازق عندما أصدر كتابه الإسلام وأصول الحكم. ولقد راجع الفاتيكان موقفه من جان دارك وتراجع عنه. وراجع موقفه من جاليليو وتراجع عنه. والفرصة سانحة أمام الأزهر لكي يستعيد استقلاله, ويبتعد عن الصراعات الحزبية ليكون مرجعا للكل, أي ضميرا! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي