حينما تفرغ من قراءة إحدي روايات محمد البساطي ينتابك دائما احساس حميمي دافئ.. فأنت معه تكاد تعايش حياة أبطال الرواية وتقترب من عوالمهم اقترابا حقيقيا. وتصبح صديقا أو قريبا لهم, تعني بأمرهم, وتقلق لأحوالهم.. تود أن تساندهم في محنتهم, وتلك الكربة التي ألمت بهم.. وتفرح كذلك لفرحهم.. يعتمل هذا الاحساس في صدري وأنا أتابع سطور أعماله الروائية المختلفة.. أجدني هنا أتعاطف مع بطل روايته الجديدة التي تحمل عنوان( وسريرهما أخضر) الذي فقد عقله تقريبا بعد خروجه من السجن وتعرضه للتعذيب.. وأقف الي جوار البطلة التي تحبه وتأخذ علي عاتقها مهمة أن تعيده الي صوابه وتخرجه من حالة الشرود والهذيان التي تنتابه. أساند قصة الحب الجميلة التي ولدت علي استحياء, وربما لم يكتمل نموها بعد, قبل أن يتعرض البطل لهذه المحنة التي وجد نفسه غارقا فيها دون ذنب حقيقي قد اقترفه, وأكاد أدفع بسطور الرواية دفعا حتي يطمئن قلبي الي نجاح البطلة في مهمتها العلاجية ونجاحها كذلك في استرداد قلب حبيبها.. هكذا ينجح البساطي في أن يشد قارئه نحو شطآن روايته بسلاسة وعذوبة وببساطة معا.. فهناك دائما( حالة عاطفية) و(وجدانية) مكثفة تغمر رواياته.. نعيش هنا عبر مشهدين متوازيين.. المشهد الأول يقدمه البساطي لحظة خروج البطل من السجن.. رجل محطم.. تائه.. يرتدي بدلة واسعة مهلهلة لسجين آخر مات تحت آلة التعذيب الجهنمية.. لا يملك من الدنيا إلاحطاما.. يسير في شوارع القاهرة المزدحمة, يحط الي جوار مقهي.. يفترش الأرض.. يتأمل المارة وهو في حالة ذهول وارتباك.. المشهد الثاني: قصة لقائه بالبطلة, ونتعرف من خلاله علي حياته: أستاذ بالجامعة.. يعيش في شقة صغيرة متواضعة.. يؤدي عمله بإخلاص.. يحب القراءة خاصة روايات تشيكوف.. وهو هنا لقاء قصير.. لم يتوغل البساطي في تفاصيله, لكنه يحمل معه( نسيم) الحب وهو كاف لكي تقع فيه البطلة في الحب ويبادلها هو الآخر المشاعر.. وتظل تنتظره وتبحث عنه في كل مكان, آملة في العثور عليه, بعدما اعتقله الأمن في مظاهرة كان واقفا فيها مصادفة, مجرد متفرج لا أكثر ولا أقل.. عبر هذين المشهدين المتوازيين والمتشابكين نعيش حكاية يوسف وسهير.. يعرض البساطي لعالم السجن الكئيب بكل ظلماته وتجاوزاته وتلك الظلال الغامضة التي تحيطه عبر مشهد البداية دون الدخول في تفاصيل.. فالسجن هنا في الخلفية فقط, وإن كان يذكرنا بالتأكيد بروايته( أسوار) التي عرضت لعوالم السجن السياسي في مصر.. ويتابع الكاتب كعادته دائما هؤلاء المتعبين.. المهمشين.. الذين يعيشون في الظل.. يلهثون ليلا ونهارا وراء لقمة العيش ولا يجدون مكانا لهم لائقا في مدينة باردة.. أنانية.. لم يعد لها ملامح تذكر.. سهير التي تعمل في إحدي وكالات الأنباء.. تعيش حياة فقيرة.. تلاحقها مضايقات رئيسها البذيئة.. تفقد عذريتها يوما دونما ذنب حقيقي منها.. تتزوج وتطلق في شهر واحد.. تلتقي بيوسف مصادفة وتقع في حبه.. ويتوه منها.. ويظل هاجسها الأول والأخير طوال فصول الرواية أن تعثر عليه.. وتجده يوما مشردا في الطريق تجذبه من يده وقد اختل عقله وفقد صوابه من جراء معاناته في السجن, ليصبح كل همها أن تحرر عقله وترده الي صوابه وتنجح سهير في مهمتها.. هذه المرأة العادية.. المهمشة.. التي لا يلتفت إليها أحد, تملك طاقة وارادة حديدية.. ويوسف.. هذا الرجل الذي لا يحفل بالسياسة ولا يتعاطاها, تقتنصه يد الأمن في شراسة وتلقي به في الزنازين.. هكذا يجد نفسه بين ليلة وضحاها في عتمة السجن.. ينال نصيبه من الضرب والتعذيب.. ويمرض ويفرج عنه في النهاية لعدم معرفة تشخيص مرضه.. هذا الرجل الذي تحول الي طفل صغير.. يلهو, ويلعب ويتعثر في الحديث.. ينام في أحضان حبيبته التي تلعب هنا دور أمه التي ترعاه وتعتني به.. ينهض يوما من كبوته ويفيق من محنته.. يحلق ذقنه.. يرتدي ملابسه ويذهب الي عمله.. ينتصر البساطي إذن لهؤلاء البشر العاديين.. البسطاء.. الذين نلمحهم كل يوم في الشوارع والطرقات ولا نلتفت إليهم.. إنهم يملكون إرادة وعزيمة وقوة فقط تنقصهم الفرصة والظروف المواتية.. هل كتب البساطي روايته الجديدة هذه علي خلفية أحداث ثورة52 يناير؟ ربما.. فنحن نلمح عبر أحداث الرواية القمع والظلم.. الثورة الداخلية.. الأمل في الحرية.. بقي أن نشير الي التكنيك السردي الذي استخدمه الكاتب هنا والذي لم يتخل عنه في كل رواياته: الجمل القصيرة الموحية.. العبارات غير المكتملة.. اللغة المكثفة.. الحوار الهامس في الحديث.. مرونة استخدام الضمائر وغيرها.. الرواية صادرة عن كتاب اليوم..