في كثير من الأحيان تختلط التعبيرات والرؤي السياسية ما بين المنظور السياسي والأكاديمي والاستراتيجي, فقد درجنا في الفترة الأخيرة علي استعمال تعبير السلام مع إسرائيل خيارا استراتيجيا, كمصطلح وليس كتوصيف لحالة.. فقد يكون من الطبيعي أن يندرج هذا المصطلح علي حالة مصر, لأن مصر قد استطاعت أن تستعيد أرضها المحتلة حتي آخر ذرة رمال, مقابل ترتيبات أمنية متفق عليها بين مصر وإسرائيل, بعد أن عانت مصر من ويلات خمس حروب 1948 و1956 و1967 وحرب الاستنزاف و1973 وقررت ألا تلجأ الي خيار الردع العسكري إلا عند الضرورة الملحة, للعديد من الاعتبارات أهمها منع نزيف الدم والمال وتوجه مصر الي التنمية والتحديث العلمي والاصلاح السياسي والاقتصادي وغيرها.. وهنا يكون لتعبير خيار السلام الاستراتيجي مدلوله المقبول. أما أن نطالب سوريا بأن يكون خطها السياسي المعلن هو السلام مع اسرائيل كخيار استراتيجي, وأرضها مازالت تحت الاحتلال الإسرائيلي, وإسرائيل تمعن في تكريس الاحتلال باستصدار الكنيست الاسرائيلي قرارا بضم أراضي الجولان الي إسرائيل, فهو نوع من التعنت في التقويم السياسي والاستراتيجي للموقف فسوريا, مازالت في حالة حرب مع إسرائيل ذلك أن اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا واسرائيل الموقعة في31 مايو عام1974, قد نصت علي وقف إطلاق النار, وأن هذا الاتفاق لا يعد اتفاق سلام نهائيا, بل هو خطوة علي طريق السلام الدائم علي أساس قرار مجلس الأمن رقم338 المؤرخ22 اكتوبر1973 والذي لم تلتزم به إسرائيل. ولقد كان الرئيس حافظ الأسد عليه رحمة الله بارعا في تعظيم موقف سوريا الإقليمي واحتواء العلاقات السورية الأمريكية, وأدلل علي ذلك ببعض الشواهد: أولا: انه كان علي عداء محترم مع الولاياتالمتحدة, فهي كانت تعارضه, وفي ذات الوقت تعترف له بدور إقليمي أساسي خاصة في المسألة اللبنانية والحرب الأهلية واتفاق الطائف, والاعتراف بأهمية الدور السوري في الحفاظ علي الأمن الاقليمي اللبناني. ثانيا: أنها برغم معارضتها للدور الإيراني, وحليفه حزب الله, إلا أنه بعد أحداث المارينز في لبنان نأت الولاياتالمتحدة بنفسها عن القيام بدور عسكري في لبنان, وقبلت بالدور السوري في حفظ الامن الداخلي في لبنان, ومنع استشراء الحرب الأهلية اللبنانية من جديد. ثالثا: ان الرئيس بيل كلينتون شخصيا, قاد محادثات مغلقة جمعت بين كل من إيهود باراك رئيس الوزراء آنذاك, وفاروق الشرع باعتباره الممثل الشخصي للرئيس حافظ الأسد, وأوشكت أن تفرز اتفاقا بين الطرفين, لولا تراجع باراك لخشيته علي مستقبله السياسي. رابعا: إن العلاقات المصرية السورية السعودية كانت بوصلة التوجه العربي, وكان هذا الثالوث وقياداته بصفة أساسية ومجمع الحكماء العرب. وكان ما أخل بالموقف التفاوضي السوري العديد من الاعتبارات, أهمها وفاة الرئيس حافظ الأسد, وما تبعه من أحداث متلاحقة أهمها الانسحاب الاسرائيلي بقرار أحادي في2000/5/24 من الجنوب اللبناني, تطبيقا للقرار425 الصادر في1978, وهو ما لم تكن تتوقعه سوريا في حينه, وأحداث11 سبتمبر2001, وما استتبعها من تعاظم الهجوم الأمريكي علي الإرهاب الدولي وتحديدا الإرهاب الأخضر, وعلي رأسه القاعدة وطالبان وايران وحزب الله وبدء الإعداد الفعلي لتطويق حزب الله في لبنان, وتقليص الفعاليات السورية هناك. فضلا عن اغتيال رفيق الحريري, وتدويل المسألة اللبنانية واستصدار القرار1559 الصادر في2004/9/2, والنجاح في إخراج سوريا من لبنان, بتفعيل دور المحكمة الدولية, الخاصة بلبنان, والضغط علي سوريا بها, وكذلك الغزو الأمريكي للعراق, وتولي الإدارة الأمريكية وبول بريمر مهمة تفكيك العراق, وانتشار الطائفية, وتقليص سلطة الحكم المركزية, ومحاولة إقحام سوريا في عملية تصدير المقاومة للعراق, والعدوان الاسرائيلي علي لبنان في يوليو2006, والخروج بالقرار1701 الذي كفل انتشار الجيش اللبناني علي حدود اسرائيل, وتقليص دور حزب الله, بعد وجود قوات اليونيفيل بين حزب الله والجليل. من منظوري, فإن سوريا لا تريد وربما لا تخطط للدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل, لتقديرها ضخامة حجم خسائرها في الأرواح والمنشآت والعقارات والمصالح الحيوية والبنية الأساسية التي ستحد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحياتية وخلافها, وأنه لم يعد أمام سوريا من بديل الا أن تتبع سياسة متعددة الأطراف للضغط علي اسرائيل, من أهمها: تقوية موقفها التفاوضي, بتعظيم دورها الإقليمي, للضغط علي القيادات السياسية الإسرائيلية أو الولاياتالمتحدة للدفع بحل المسار السوري الإسرائيلي, والضغط للتمسك بالمقاطعة العربية لإسرائيل وعدم التطبيع العربي معها عدا مصر والأردن, ودعم الإبقاء علي حزب الله وبعض فصائل المعارضة الفلسطينية كقوة ردع عسكري ضد إسرائيل, وتكريس الوجود الفلسطيني في معسكرات اللاجئين بسوريا ولبنان, بغية إفشال مشروع السلام الفلسطيني الإسرائيلي وحصار الموقف الإسرائيلي داخليا, وأخيرا خلق توازن إقليمي لصالحها بدعم من بعض القوي الإقليمية وأهمها إيران, وتركيا. وجاء تولي باراك أوباما للرئاسة الأمريكية, والتبشير ببدء سياسة جديدة تعتمد علي القوة الناعمة الأمريكية, واحتواء سوريا وإيران عبر نطاق سياسي ليبعث شعاعا من الأمل لتحريك المسار السوري, خاصة أنه كان من مترادفاته بدء محادثات غير مباشرة بين سوريا واسرائيل عبر تركيا, لتمهيد الطريق للدخول في محادثات مباشرة, إلا أن المماطلة الإسرائيلية في موضوع تحديد الحدود التي تفصل بين البلدين, وعدم موافقتها علي النقاط الست التي قدمتها سوريا لتوضيح حدودها, قد أوقف هذه المفاوضات. ومع هذا, فإن العديد من المحللين السياسيين والاستراتيجيين يميلون, الي تقدير أن الولاياتالمتحدة تسعي في المرحلة الراهنة للضغط بالمسار السوري علي إسرائيل, بعد انهيار فرص التوصل الي اتفاق حول المسار الفلسطيني, ووصل البعض منهم الي طرح أن زيارة جورج ميتشيل الأخيرة للمنطقة كانت تركز علي تحريك المسار السوري في الأساس, والبدء بمفاوضات غير مباشرة عبر ميتشيل لحلحلة النقاط المستحكمة, توطئة للدخول في محادثات مباشرة.. الأمر الذي دفع اسرائيل الي محاولة حرق أوراق الحل قبل بدئها بتصريحات وزير خارجيتها أفيجدور ليبرمان المستعرة بالتلويح بخيار الردع العسكري ضد سوريا اذا ما لجأت لحماية الجنوب اللبناني وهو موقف سوري ضد محاولة تصفية حزب الله ورد فعل بنيامين نيتانياهو الضعيف, ومحاولة ايهود باراك تخفيف حدة التصريحات.. وخلاصة القول أن المسار السوري الإسرائيلي أصبح مطروحا الآن للتداول, وفرص تحريكه باتت أقرب للحقيقة, إما باعتبارها ورقة ضغط لتحريك المسار الفلسطيني, أو للخروج بإنجاز يحققه أوباما قبل أن يدخل في مرحلة البيات الشتوي السياسي اعتبارا من خريف هذا العام والانتخابات النصفية لمجلس الشيوخ الأمريكي. والسؤال الذي يفرض نفسه, هل ستنجح الولاياتالمتحدة في دفع المسار السوري عبر جورج ميتشيل, أم سيبقي الوضع في قائمة السلام الضائع؟.