لم أصدق ما سمعته من مستشار في محكمة جنايات بإحدي المحافظات القريبة من القاهرة, إذ قال: لا يمكن أن أذهب إلي جلسات المحكمة دون الطبنجة في جنبي, كي أحمي نفسي من البلطجة وقلة الأدب! قاطعته صارخا مندهشا: هل هذا معقول؟ رد: طبعا معقول جدا, الأوضاع سيئة جدا في المحاكم إلي درجة تهدد العدالة تهديدا مباشرا, وتعوق أي قاض عن أداء مهمته. سألته: لماذا؟ أجاب: أهالي المتهمين أصبحوا يرفضون أي حكم إدانة لهم في أي قضية مهما تكن خطورة الجريمة التي ارتكبها هؤلاء المتهمون وثبتت عليهم: مخدرات, ترويع مواطنين, سطو مسلح, اغتصاب, قتل.. الخ قلت: شيء طبيعي وإنساني. قال: في حدود الزعل والحزن, لكن المسألة تتجاوز رد الفعل العاقل إلي رد فعل يجرمه القانون, التطاول بالسباب علي القاضي وشتمه وسط قاعة المحكمة, محاولة الاعتداء عليه, إحداث حالة هياج وصخب تدمر هيبة القضاء, تخريب المحكمة نفسها..تخيل أن خروج القضاة يتم من الأبواب الخلفية في المحاكم حتي لا يتعرض لهم الأهالي بالضرب أو الاعتداء بالألفاظ القبيحة وصارت عادة شائعة..نحن في كارثة! علقت: لا أستطيع أن أصدق ما يحدث. رد: لا يمكن أن يمر أسبوع دون اعتداء مادي أو معنوي علي محكمة في مكان ما من أنحاء مصر.. سألته في حدة: ولماذا لا يعاقب القاضي بالحبس الفوري علي كل من يعتدي علي هيبته أو يبدي احتقارا أو تشكيكا في حكمه أو يتطاول علي المحكمة, والقانون يعطيه هذه السلطة؟ أجاب ساخرا: هذا كلام نظري, لا توجد وسيلة لتطبيقه الآن علي أرض الواقع, فالشرطة غير كافية, والحماية في المحاكم محدودة..ومع حالة الفوضي التي ركبت الناس منذ سنوات, وزادت الآن, لم يعد للقانون هيبة ولا لرجل الشرطة أيضا. هناك توحش وتجرؤ ووقاحة في السلوك والتصرفات. باختصار صارت مهنة القضاء خطرا حقيقيا, فكيف للقاضي أن يحكم وهو يدرك أن المجتمع لن يحميه؟ سكت برهة ثم استطرد: صحيح أن الدولة أصابها نوع من التفكك والضعف, لكن الإعلام والفضائيات كانا بمثابة معاول الهدم الأكثر فاعلية وسرعة, فالفضائيات تحاكم المتهمين وهي التي تقيم أدلة الاتهام ومدي أهميتها في القضية, والصحف تصدر أحكاما, باختصار تحولت العدالة إلي مسلسل تليفزيوني وصحفي, ففقدت احترامها, وتجرأ الجميع عليها.. وضع شاذ ومخيف..ويحتاج إلي حل ناجع وحاسم وقوي, وإلا علينا السلام! المزيد من أعمدة نبيل عمر