زرته قبل الثورة بيومين برفقة صديقنا رزق, ورزق هذا تجاوز الستين, أما الذي ذهبنا لزيارته فإنه العم عبدالفتاح الذي في الرابعة والثمانين, ويعيش وحيدا ويتكلم بصوت خافت ويفرط في تفاصيل أي حدث يتناوله. عندما أزوره وحدي كان يصر علي توصيلي وينزل الدرجات القليلة حتي نخرج إلي مدخل المبني ويطل برأسه يمينا ويسارا, حيث بائع الخضر والفاكهة الذي يسند الأقفاص مائلة علي طول الجدار الخارجي لشقته الكبيرة, ثم يصافحني ويصعد الدرجات متكئا علي الجدار بقامته الضئيلة ومعطفه القديم الذي ينسحب وراءه. وعندما يغلق بابه أتجه إلي البائع وأشتري الفاكهة التي جئت أصلا لشرائها. وفي هذه المرة الأخيرة جلست ورزق متجاورين بينما جلس هو قبالتنا, وبعد ما وضعت زوجة البواب أكواب الشاي وانصرفت قال, كأنه يحدث نفسه: - أنا حلمت إني طلعت لي أسنان, وقعدت علي الكنبة أكل الخيار, وأشرب الشاي. ورزق قال: دي بشرة خير. - ليه بقي؟ - لأن دي أيام صعبة. ممكن الواحد يطلع له فيها أي حاجة. - أي حاجة ازاي يعني؟ - اهو أي حاجة والسلام. وعندما وقفنا لكي ننصرف أخبرني أنه لن يقوم بتوصيلي والبركة في الأخ عبدالرزاق. أخبرته ان اسمه رزق وغادرنا الصالة وأغلقنا الباب وراءنا. كنت كلما نظرت من هنا رأيته يجلس هناك في ركن شرفته متدثرا بمعطفه القديم لا يكاد يبارحه. كنت أراه وراء قصاري الزرع المتباعدة فوق سورها الذي يعلو أقفاص الفاكهة المائلة علي الجدار, وعلي امتداد الرصيف, كانت مجموعة المقاطف الكبيرة الممتلئة بالبطاطس والكوسة والخيار والملوخية وخلافه. وكلما ذهبت لشراء بعض الفاكهة كان يلمحني ويطلب مني أن أصعد وفي أحيان أخري يلمحني ولا يدعوني. وفي اليوم الأول لقيام الثورة وجدت أن باب شرفته قد أغلق وأنه اختفي بالداخل. الفكهاني ايضا غادر موقعه وأغلق الدكان وظلت أقفاص الفاكهة خالية ومبطنة بالورق الذي يغلف به الأولاد كراساتهم المدرسية, وخلا المكان من المقاطف ولم أعد أتجه للشراء. توقفت عن الاتصال به خشية أن يدعوني وأنا أريد الجلوس أمام التليفزيون, وفكرت أنه ربما انتقل إلي مسكن أحد أبنائه أو أن أحدهم جاء للإقامة معه. وبعدما تنحي حسني مبارك ومرت الأيام وبدأت الأحوال تهدأ والحياة تعود قليلا إلي المنطقة عاد الفكهاني إلي موقعه وامتلأت الصناديق المرصوصة بحبات البرتقال والتفاح كما عادت مقاطف الخضر إلي مكانها في الناحية اليمني من الدكان, ولم ألبث أن تبينته متدثرا بمعطفه في ركنه المعتاد, وفي أول المساء اتجهت إلي هناك ورآني, وقبل أن أضغط زر الجرس فتح لي وسبقني منحنيا وأغلق باب الشرفة الزجاجي وهو يقول: - شفت اللي حصل؟ وجلسنا متجاورين ورأيت في نور الطريق قصاري الزرع تبدو واضحة علي السور عبر زجاج الباب المغلق. وسألني عما سوف يحدث بعد ذلك وقلت إنه كل خير. وضغط الجرس المجاور وجاءت زوجة البواب عملت الشاي وضعته أمامنا وانصرفت. حينئذ قال إن الحمد لله لأن الأحوال هدأت وأخبرني أن الرجل الذي كلمني عنه كان موجودا صباح اليوم, وعندما أخبرته أنه لم يكلمني عن أحد راح يحكي وأنا فهمت من الكلام أن بائع الفاكهة اعتاد أن يضع إلي جوار مقاطف الخضر سبتا خاليا يلقي فيه بالثمار المعطوبة لكي يتخلص منها آخر النهار, وأن هناك رجلا عجوزا اعتاد أن يأتي في الصباح الباكر قبل الثورة ويركع إلي جوار هذا السبت وفي يده سكين صغيرة حادة وينتقي بعض هذه الثمرات سواء كانت حبة بطاطس أو كوسة أو واحدة من ثمار البرتقال أو الجوافة أو قرنا من الفلفل الرومية أو التفاح أو رأس جزرة صفراء أو خيارة خضراء أو غيرها, قال إنه يعمل فيها هذا السكين الصغير مثل الجراح ويستأصل ما بها من عطب يتركه بالقفص, ويأخذ ما تبقي منها مهما كان ضئيلا ويسقطه سليما في حقيبة مفتوحة إلي جوار قدمه. قال إنه اعتاد أن يراقبه دون أن يشعر من وراء قصاري الزرع, ولكنه اختفي لما الثورة قامت والفكهاني أغلق الدكان. ولكنه عاد اليوم. وقال إنه بعد ذلك يحمل حقيبته الصغيرة ويعبر بها الطريق ويركب الميكروباص المتجه ناحية مساكن الزلزال. وصمت لفترة ثم التفت إلي وأضاف انه غالبا علي المعاش. يلبس بدلة رمادية قديمة ونظارة طبية. وغلبه النعاس ولم يعد راغبا في الكلام, وأنا خرجت اشتريت البرتقال وانصرفت. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان