"لعل مرد معظم اختلافاتنا اليوم إلى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الأمر الذي قد يتطور حتى يصل إلى فجور في الخصومة وإننا قلما ننظر إلى الدخل، لأن الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والإسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والأثر يقول:طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس".آثرت أن أبدأ بهذه الكلمات التي ذكرها د.طه جابر فياض العلواني في كتابه "أدب الاختلاف في الإسلام" الذي يفصّل فيه ويبين مدى مساحة الاختلاف في الإسلام. ونظرا لأن كثيرا من الاختلافات مرجعها الأهواء فقد عالج الإسلام الأمر وأنار الطريق للإنسان ليتخذ من الاختلاف مادة ثرية تنير العقل الحائر في زمان كثر فيه الكلام وقلّ فيه الفعل وانقسم الناس ووكل الأمر إلى غير أهله وكل يعتبر كلامه معصوما وأنه يملك من المعرفة ما لا يملكه غيره وهذا خطأ بيّن فمن ظن نفسه أنه عالم فقد ركب درجات الكبر والعجب ورحم الله الإمام مالك كان دائما ما يقول كلما قرأت ازددت جهلا لأنه ستظهر أمامي من العلوم والمعارف ما كنت عنه جاهلا فأدركت أني كنت جاهلا بأشياء كثيرة والمنصف هو الذي يستفيد من غيره ولا يتخذه عدوا له عندها ستتغير الرؤية ويستقيم الميزان،ولو أدرك الناس أن الكمال لله وان العقل البشرى مهما أوتي من علم وفهم فهو قاصر ومحدود عن إدراك كل أبعاد وزوايا الأمور عندها سينظر كل منا إلى ما يملكه من دليل وما يملكه غيره من أدلة ويصبح العقل بحياده مقياسا..سيستفيد كل منا من غيره وكل هذا مع تسليمنا بأن الاختلاف سنة كونية وطبيعة إنسانية وصدق الله إذ يقول" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" سورة هود.وهذا الاختلاف الذي نتحدث عنه إنما يتعلق بالمسائل الحياتية التي لم يرد فيها نص من الكتاب والسنة لأن الاحتكام في أمور الدين التى تتعلق بالعقيدة وغيرها يكون إلى الكتاب والسنة من خلال فهم السلف ومن سار على نهجهم من العلماء الربانيين "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا"سورة النساء. وتأمل معي قارئي العزيز قصة موسى والخضر عليهما السلام والتي حكاها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف وسبب الرحلة كما يقول كثير من المفسرين أن موسى عليه السلام قام في بني إسرائيل خطيباً بخطبة بديعةٍ رقت بها القلوبُ وذرَفت العيون ، فقالوا له : مَنْ أعلمُ الناس؟ قال :أنا. فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل فأوحى إليه :"بل أعلمُ منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخِضْرُ عليه السلام" فكانت الرحلة مع أن موسى كان من وجهة نظره محقا إذ أنه نبي يوحى إليه. وما أن ركبا السفينة حتى قام الخضر بخرقها فقال موسى معاتبا"أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا"فموسى عليه السلام يتعجب مما فعله الخضر عليه السلام ولسان حاله يقول:كيف نقابل إحسانهم لنا بإساءة بعدما أكرمونا وحملونا معهم بدون أجر وفي نهاية الرحلة بين الخضر لموسى العلة من خرقه للسفينة وهو أمر كان غائبا عن موسى مع أنه عليه السلام كان نبيا وهذا لا ينتقص من موسى عليه السلام في شيء"أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا"..فموسى نظر إلى أن السفينة كانت سليمة فصارت معيبة والخضر نظر إلى أنها ستصبح معيبة لكن أهلها ينتفعون بها أفضل من أن تكون سليمة وتؤخذ منهم ولما اختلفت زاوية الرؤية اختلف الحكم وكلاهما في ضوء ما يملكه من معلومات كان محقا وهذا ما حدث أيضا مع الغلام والجدار وصدق الله إذ يقول"نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"سورة يوسف. [email protected] المزيد من مقالات حماده سعيد