قوبل الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء المصري والوفد رفيع المستوي المرافق له في زيارته للسودان مؤخرا إستقبالا حافلا عاطفيا مؤثرا, ولاشك أن هذه المشاعر الشعبية في السودان تجاه شرف الذي هو أحد رموز الثورة المصرية, هو تعبير عن أشواق السودانيين وآمالهم في علاقة جديدة مع مصر مبنية علي الندية والتفاهم والحوار وحل المشكلات. ولاشك أن أشواق السودانيين هذه تماثلها أشواق مماثلة لدي المصريين لإستعادة مكانة بلدهم ودورها تجاه أشقائها وفي منطقتها, وعلي رأسها جميعا السودان, حيث يري كثير من المصريين لو أن مصر قامت بدورها الطبيعي لما تدهور الوضع في السودان إلي هذا الحد الذي ينفصل فيه الجنوب, وتتأزم فيه دارفور, ويصبح السودان كله في مأزق, وبالتالي كانت أحد أسباب ثورة المصريين في25 يناير الماضي ليس فقط رغبتهم في إصلاحات داخلية وفي الحرية والعدالة الإجتماعية, وإنما أيضا رغبة منهم في إستعادة الدور المصري المفقود. ولاشك أن إختيار شرف للسودان لكي تكون أول محطة خارجية لوزراته بعد الثورة وتأكيده ووزرائه علي أنها الأولوية الأولي في سياسة مصر الخارجية الآن, تحمل كثيرا من المعاني, وتعبر عن طبيعة العلاقة الإستراتيجية بين البلدين التي لاينبغي أن تتأثر بذهاب حكم أو قدوم آخر, وكانت الزيارة كذلك للشمال والجنوب معا, وهو مايعني إستمرار أسس السياسة المصرية التي تراعي التوازن والعلاقة العادلة بجميع الأطراف السودانية, وقد أعلن وزير الخارجية المصري أن مصر ستكون ثاني دولة تعترف بدولة الجنوب القادمة بعد الخرطوم, وأعلن الوفد المصري إستمرار دعمه للتنمية وإعادة الإعمار في الجنوب, وأيضا للحل والتنمية في دارفور وشرق السودان. كما كانت هناك مدلولات كبيرة في لقاء شرف ووفده لقيادات المعارضة في السودان علي إختلاف إنتماءاتهم وتوجهاتهم, ولا شك أن هذا اللقاء أعطي إشارة قوية لحجم التغيير الذي تم في مصر بعد ثورة25 يناير, وأن السلطة بها أصبحت أكثر تعبيرا عن الشعب المصري, وأكثر إيمانا بحركة الشعوب وضرورة التواصل معها, وهذا هو الخط الذي ينبغي مواصلة العمل من أجله, وجعل كل تطور في العلاقة بين البلدين ملك للشعبين, وقبل كل ذلك معبرا عن إرادتهما الحرة, لأن هذا وحده هو الضمانة لتطور العلاقة وتحقيق المكتسبات, خلافا للحال إذا شعر مواطنو البلدين أن العلاقة يتم تكريسها لصالح فرد أو جهة أو حزب. ومن المؤكد أن التغييرات الكبيرة التي حدثت في البلدين في الأشهر القليلة الماضية, والتحديات الهائلة غير المسبوقة التي يواجهانها, يحتاج منهما إلي تشاور وتنسيق وتعاون علي جميع الأصعدة, فمصر الآن لم تعد هي مصر التي كانت قبيل صبيحة يوم25 يناير الماضي, والسودان كذلك هو سودان مختلف عن ماقبل يوم إستفتاء تقرير مصير الجنوب في التاسع من يناير الماضي. وهذه التطورات تعيد رسم الأولويات وتحديد المسارات بلا شك في البلدين, إذ سيكون علي مصر الآن الإستعداد للتعامل مع دولتي السودان الشمالي والسودان الجنوبي بكل مايحمله ذلك من تعقيدات ومشكلات, هذا فضلا عن مشكلة دارفور التي لم يتم حلها بعد. ومن المؤكد أن المصريين يريدون السودان الآن أولوية أولي في سياسة بلادهم الخارجية, ويدرك أهميتها القصوي الآن القاصي والداني في مصر, وهو مايحتاج تحركا إستثنائيا من جميع الأجهزة المصرية تجاه السودان هذا البلد الإستثنائي بالنسبة لمصر والمنطقة في هذه اللحظة الإستثنائية الفارقة في تاريخ البلدين اللذين يعاد تشكيلهما الآن, حيث سيظل كلا البلدين عمق إستراتيجي للآخر, وهناك أولوية قصوي للتنسيق والتعاون السياسي والإقتصادي والأمني, وكذلك بشأن قضية مياه النيل بعد التطور الأخير الخطير بإنضمام بوروندي إلي الدول الخمس الأخري الموقعة علي إتفاقية عنتيبي لمياه النيل بمعزل عن مصر والسودان, وكذلك للتنسيق بشأن التطورات الخطيرة في الشقيقة ليبيا وباقي الدول العربية التي تعصف بكياناتها تغييرات هي الأخري, كما أن هناك حاجة ماسة إلي إستكمال التعاون السابق في مجالات الزراعة والكهرباء والصحة وغيرها بين مصر والسودان شماله وجنوبه, وتسريع وتيرة هذا التعاون لكي يكون واقعا ملموسا يشعر به المواطن العادي ويجني ثماره. ولعل المرحلة الراهنة تتطلب حوارا شفافا ديمقراطيا صريحا علي جميع المستويات ومختلف الأصعدة بين البلدين, حول جميع القضايا العالقة, ولكن ينبغي التنبه إلي أن عدم فاعلية الدور المصري في السابق أمرلايلقي فيه باللوم علي مصر وحدها,وإنما يقع اللوم أيضا علي الأطراف السودانية, لكن في المقابل فإن هناك عاملا آخر يتعلق بمصر, وهو أن ملف السياسة المصرية تجاه السودان ظل بالأساس في ايدي أجهزة الأمن والمخابرات, وبالتالي غلبت النواحي الأمنية والرؤية الأمنية علي حساب النواحي السياسية والثقافية والإجتماعية, وسيبقي مستقبل العلاقات مع السودان مرتبطا بمدي القدرة علي تفعيل الدور المصري تجاهه وجعله أكثر فاعلية ومبادرة, وهو المطلوب في المرحلة الراهنة, وهو مايجعل الحاجة ملحة إلي تطوير آلياته وتجديد مبادراته بشكل فعال ومؤثر, وفي هذا السياق يجب أن تراهن مصر في عهدها الجديد علي الشعب السوداني في شماله وجنوبه ومصالحه العليا, وأن تضع الأطراف السودانية جميعا أمام مسئولياتها الحقيقية, حتي لايبدو أنها تجامل احدا علي حسا ب بلد بأكمله, وتستطيع السياسة المصرية كذلك المساهمة في قيادة مبادرات كبري بين شمال وجنوب السودان لخلق مناخ من الثقة, وداخل كليهما. وهناك حاجة عموما إلي تنشيط الدور الثقافي والإعلامي المصري والبحث عن آفاق لإنطلاق العلاقات بين البلدين وإبتداع الآليات والسبل المثلي لإدارتها والإستفادة القصوي منها, وإلي حشد كل الطاقات الشعبية والأهلية لبناء جسور التواصل والتلاقي بين الدولتين اللتين ستصبحان بعد التاسع من يوليو المقبل موعد الإعلان الرسمي لإستقلال الجنوب ثلاث دول, والعمل علي وضع هذه العلاقات علي رأس الإهتمام المصري بكل مستوياته الرسمية والشعبية وتشجيع إقامة المشروعات الإقتصاديةالمشتركة.