يبدأ المرء حياته بالتعرف المباشر علي أفراد أسرته, ولكنه لا يلبث كلما تقدم في مراحل النمو أن تتزايد شيئا فشيئا أعداد الأفراد' الآخرين' الذين ينبغي عليه التفاعل معهم. وتتفاوت أنماط التفاعل المطلوبة تفاوتا كبيرا بين الحب والكراهية, بين الهجوم والدفاع, بين الإقدام والإحجام... إلي آخره. وليس من شك في أن اختيار النمط المناسب للتفاعل مع شخص بعينه يقتضي أولا معرفة هذا الشخص: من هو ؟ ماهي خصائصه النفسية والاجتماعية والأخلاقية ؟ هل هو عدواني ينبغي مهاجمته ؟ هل هو رقيق حساس ينبغي توخي الرفق في التعامل معه؟ هل هو خبيث ينبغي التحسب له ؟ هل هو طيب لنا أن نأمن جانبه؟ إلي آخر تلك المعلومات الضرورية التي لابد منها لكي نحسن التعامل مع الآخرين. وغني عن البيان أن نقص مثل تلك المعلومات, و ما يؤدي إليه من تعامل خاطئ مع الآخر, قد يكلف المرء حياته بالفعل إذا ما حسب العدو صديقا فأمن له واقترب منه, وقد يكلفه خسارة فادحة إذا مابادر صديقا بالعدوان بحسبانه عدوا. وإذا ماكان الأمر كذلك تري كم من الجهد ومن الوقت ينبغي علي المرء أن يبذله ليحقق الحد الأدني من تلك المعرفة المطلوبة والضرورية؟ و هل يمكن تأجيل الاختيار إلي أن يتحقق ذلك؟ وإذا ما استحال ذلك التأجيل, فما هو البديل ؟ لقد ظهر التصنيف النمطي للآخرين لسد هذه الفجوة علي وجه التحديد: اقتصادا للجهد والوقت اللذين تتطلبهما المعرفة المباشرة. فبمجرد التعرف علي الملامح الظاهرية المميزة للآخر, والتي يمكن من خلالها الاستدلال علي هوية الجماعة التي ينتمي إليها, يتحدد بصورة أولية الموقف منه. وهو موقف قابل للتطوير والتعديل بطبيعة الحال إذا ماسمحت الظروف بمزيد من التعرف المباشر وبصورة أعمق علي ذلك الآخر. ويكفينا للتدليل علي مانقول أن نعرض بإيجاز لدلالات عدد محدود من تلك الملامح الظاهرية, والتي تشمل الجنس, والطول, والوزن, ولون البشرة, والسن, ونوعية الملابس وملحقاتها, والملامح الجسمية المميزة. إن التعرف علي جنس الآخر أمر لايقتضي كثيرا من الجهد والوقت. فإلي جانب الملامح الجسمية المميزة للذكور والإناث يحرص كل مجتمع علي تزويد أبنائه بوسائل إشهار إضافية تفصح عن انتمائهم الجنسي, كالملابس, و تصفيف الشعر, و أنواع من الحلي... إلي آخره. وفي نفس الوقت فإن المجتمع يزود أبناءه بصورة إدراكية عامة للذكور وللإناث بحيث تنسب لكل جنس صفات سلوكية معينة تيسر للمرء التفاعل بصورة أولية مع الآخر الذكر أو الأخري الأنثي حتي قبل التعرف الإنساني المباشر مع أي منهما. كذلك الحال بالنسبة لخاصيتي الطول والوزن, فالصورة الإدراكية للطوال مثلا قد تنسب لهم صفاتا عقلية وسلوكية تختلف عن نظيرتها في الصورة الإدراكية لقصار القامة. والأمر بالمثل بالنسبة لأصحاب الأجسام النحيفة, وأصحاب الأجسام البدينة. ومن ثم فإن مجرد أن يكون الآخر القادم طويلا أو قصيرا, نحيفا أو بدينا, يخلق لدينا نوعا من التهيؤ النفسي الإدراكي للتعامل معه وفقا للصفات الشائعة عن الجماعة التي ينتمي إليها بصرف النظر عن صدقها أو زيفها, وبصرف النظر أيضا عن مدي انطباق تلك الصفات عليه شخصيا. ويلعب لون بشرة الآخر دورا هاما في تشكيل الصورة الإدراكية لصاحبه. إن العديد من المجتمعات تنسب قائمة محددة من الصفات النفسية إلي أصحاب كل لون من ألوان البشرة فللزنوج صورة إدراكية تختلف عن صورة البيض أو أصحاب البشرة الصفراء أو السمراء... إلي آخره. وإذا كانت الملامح الظاهرية السابقة تندرج تحت ما يسمي بالملامح الطبيعية, فإن ثمة ملامح أخري يصطنعها البشر وتلعب دورا أخطر في تشكيل الصورة الإدراكية, ولعلها تعنينا أكثر في هذا المقام. ولعل أبرز تلك الملامح يتمثل في الملابس وملحقاتها, حيث تلعب الملابس دورا أساسيا في تصنيف الفرد قوميا و في تحديد الصورة الإدراكية للقومية التي ينتمي إليها, كما قد تلعب دورا مهما في تشكيل الصورة الإدراكية للمجموعة التعليمية أو المهنية التي ينتمي إليها الفرد, بل و تلعب أيضا دورا أساسيا في تحديد سلوكياته وفقا لصورته الإدراكية لدي الآخرين: إن مجرد ارتداء المعطف الأبيض و في إطار بيئة اجتماعية معينة يفرض علي صاحبه أن يتصرف وفقا للمتوقع منه باعتباره طبيبا, مما يسمح له بما قد لا يسمح به لغيره من تصرفات, و يحظر عليه ما قد لا يكون محظورا علي غيره من أنواع السلوك. و كذلك الحال بالنسبة لعمامة الشيخ, أو قلنسوة القسيس, أو غير ذلك من الأردية المميزة لرجال الدين, فضلا عن النقاب والحجاب و الصليب و غيرها من كواشف الهوية الدينية لدي العامة, فإنها ليست بحال مجرد ملابس أو مستلزمات; بل هي إعلان عن الهوية الدينية, و من ثم فهي رسالة موجهة للآخر ويتوقف تأثير تلك الرسالة علي ترجمة ذلك الآخر لها, كما يتوقف أيضا علي التجسيد السلوكي لصاحبها كنموذج أخلاقي للفئة التي اختار أن يعلن انتماءه إليها, و تتوقف تلك الترجمة وذلك التجسيد بدورهما علي ما غرسه المجتمع في نفوس أبنائه عبر عمليات التنشئة الاجتماعية من صور إدراكية جاهزة لتلك الرموز الدينية. إن الإفصاح العلني عن الهوية الدينية يحمل صاحبه أو صاحبته مسئولية اجتماعية ثقيلة, حيث إنه وقد وضع نفسه موضع الممثل لجماعته, ومن ثم فإن أخطاءه السلوكية وهناته الأخلاقية لا بد أن تتضخم وأن تتجاوزه لتشوه صورة جماعته التي ارتضي إعلان نفسه ممثلا لها. لعلنا نستوعب ذلك ونحن نتأمل ما يجري بيننا و حولنا من أحداث. [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني