أمام باب لجنة تصويت في المهندسين وقفت فنانة في نقابها الأسود في طابور النساء دون أن يميزها أحد, وكان حوار دائر بين المنتظرات للتصويت, فالطابور أطول من قطار بضاعة بطئ الحركة, والانتظار الصامت أكثر مللا من الصبر علي فراش المرض, ولا يفله إلا الكلام مع الناس, وكانت سيدة غير محجبة تشرح لجارتها في الطابور لماذا ستقول لا, فإذا بالفنانة المنتقبة تكشف جزءا من وجهها صارخة فيها: طبعا تقوللي لا..علشان منتتوش عايزين تتغطوا ونشب فاصل من الردح الخفيف الذواتي, انتهي فور قدوم زوج الفنانة بعد أن أدلي بصوته, وقال: يهديكم الله ياعلمانيين..لسنا أقل من تركيا! ولم تفهم النساء الواقفات في الطابور ماذا يعني بعلمانيين, هل يقصد تكفيرهن خاصة أن أغلب الدعاة والشيوخ ورجال الدين أخرجوا الكلمة قصرا من معناها ومدلولها المعروف في الكتب والقواميس والتاريخ الإنساني واقرنوها بكلمة كافر أو كاره للإسلام..وهي أبعد ما تكون عن هذا المعني تماما! ثم امسك الزوج بزوجته ومضي إلي حال سبيله لا يلوي علي شئ.. لكن القضية التي طرحتها زوجته لم تمض في حال سبيلها بعد, بل هي قادمة إلي قلب حياتنا بقوة وقد يتبادر إلي الذهن: ما علاقة التصويت علي التعديلات الدستورية بغطاء النساء؟! هل كنا نصوت علي أسلوب انتخاب رئيس جمهورية, أم كنا نصوت علي نظام دولة: ديني أو مدني؟! بالقطع يجب أن ننحني جميعا احتراما وتنفيذا للتصويت بنعم, فرأي الأغلبية هو القانون, طالما صادر بطريقة مشروعة وليس شرعية, لكن التساؤل يظل ملحا, والإجابة عليه ضرورية.. وتبقي مسألة ثانية وهي حكاية تركيا, التي يلح جزء كبير من التيار الديني المعتدل في وصفها بأنها النموذج الذي نسعي إليه في مصر. كلام جميل ورائع..وفعلا النموذج التركي قد يكون الأقرب إلينا. لكن هل نحن علي وعي بالتجربة التركية, أم أننا نأخذها من علي السطح؟! هل هم يتحدثون عن تركيا كما يعيشها مسلموها أم يتحدثون عن تركيا كما يتصورونها هم؟ في انتخابات عام2007 قال رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية في ندوة تليفزيونية: أنا علماني أدافع عن دولة علمانية! بالطبع العلمانية في مفهوم أردوغان لم يجر تحريفها وتكفيرها كما حدث في بلادنا زورا وبهتانا.. وكان يقصد أنه ليس رجل دين, وتركيا دولة غير دينية.. ثم قال في مواجهة المظاهرات العلمانية المناوئة لحكومته: من الخطأ الحديث عن تعارض العلمانية والدين الإسلامي في تركيا. وحزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميا بالمعني الذي يفهمه تيار الإسلام السياسي في مصر والعالم العربي, وإنما هو حزب ليبرالي علماني له قواعد من الإسلام, علي شاكلة الأحزاب المسيحية في الدول الأوروبية, مع الاعتراف بوجود اختلاف حقيقي معها. والأتراك في حزب العدالة والتنمية لا يعتبرون الحجاب فرضا علي المرأة, بل إن أغلب المرشحات من الحزب اللائي نجحن في انتخابات2007 علي سبيل المثال كن سافرات غير محجبات, بالرغم من أن زوجة أردوغان محجبة, فالزي في رأيهم مسألة شخصية, وكما قال أحد زعمائهم في حوار صحفي( لماذا لا يتعايش الحجاب جنبا إلي جنب مع السترات القصيرة؟). وعموما.. السفور أو بمعني أدق عدم الحجاب لا يعني أن المرأة تمشي عارية في الشارع أو بمايوه بكيني أو تكشف أكثر مما تغطي, فجداتنا وأمهاتنا في مصر سواء في الريف والحضر سافرات الوجه في ملابس محتشمة. حتي الصراع الذي يبدو مشتعلا في الشارع التركي بين العلمانيين والإسلاميين فهو مختلف في جوهره عن المفاهيم التي يحاول الإخوان والسلفيون وغيرهم ترويجها بين العامة عندنا..هو صراع مخاوف أكثر منه صراع واقع معاش, مخاوف من تسلل مفاهيم الجيران العرب عن الإسلام والدولة والعلمانية إلي الداخل, وهي مفاهيم لو سادت قد تعيد تركيا إلي الوراء مرة ثانية, وتضع نهاية مأساوية لنموذج دولة ذات أغلبية مسلمة قادرة علي أن تكون ديمقراطية وحرة ومتطورة, حتي لو كانت بشروط الحماية المفروضة عليها من الجيش, حماية تمنع الربط بين الدين والدولة. ومخاوف الربط بين الدين والدولة هي التي تدفع حزب الشعب الجمهوري- وهو أقرب الأحزاب إلي الفاشية إلي التشدد في معارضة حزب العدالة والتنمية وأي شعارات دينية. وهذا الحزب يفهم العلمانية علي أنها نمط حياة وأسلوب معيشة, وليست نظام حكم لا يلعب فيه الدين دور أداة القياس والتوجيه والتصنيف والتمييز بين البشر, وهذا الفهم فيه قدر من المغالاة في الأخذ بالقيم الدنيوية, وهو لا يقل خطورة عن الذين يدمجون الدين في الدولة, ويغالون في الأصولية الدينية! باختصار..في تركيا الإسلام ليس هو الحل, وإنما الإنسان هو الحل. الإنسان الذي يفكر في واقعه ويتدبر أحواله ويعقل ظروفه ويتوكل علي الله بعدها, فالحلول لمشكلات البشر لا تسقط من السماء ولا تتحقق بالدعاء, فكل مشكلة مرتبطة بظرفها الخاص جدا: الزمان والمكان والثقافة والتطور التاريخي ودرجة التحضر, ويستحيل أن يوجد حل دائم صالح في كل زمان ومكان لمشكلات الإنسان اليومية, بل إن بعض الحلول قد تتناقض من مجتمع لمجتمع, ومن بيئة لبيئة.. وقد قال عبد الله جول وقت ترشحه عن حزب العدالة والتنمية للرئاسة: بعض الأشخاص يرون أن تركيا في أزمة, والواقع أن الأزمة تبدأ لو أتي الإسلاميون إلي الحكم, نحن لا نريد أن نكون إيران. هذا ما يؤمن به حزب العدالة والتنمية, ولهذا لديه تصور لمشكلات تركيا وبرنامج سياسي عملي, برنامج لم يدع أبدا أن مرجعيته مستمدة من الشريعة, لأن الأتراك يدركون أن الشريعة ليست نظرية في السياسة والاقتصاد والتنمية ومؤسسات الحكم وعلاقاتها ببعضها البعض, وليست نظرية في القانون الدستوري, وإن كانت فيها مسحة مما يتصوره البعض نظاما سياسيا واقتصاديا متكاملا..ولو كان موجودا لكان ذلك هو نهاية التاريخ فعلا, فما الذي يمكن أن يضيفه الإنسان؟! الإسلام في تركيا مجتمع وليس دولة, فالمجتمع المسلم ممكن أن ينشأ في أي دولة, في الصين أو الهند, في كمبوديا أو شيلي, في أمريكا أو السعودية, مجتمع عاداته وقيمه وتقاليده وحياته وفق ثقافته الإسلامية, دون أن يفرض نمط حياته علي الآخرين لا بالعنف ولا بالحيلة. المزيد من مقالات نبيل عمر