قبل أسابيع من ارتكاب جريمة حرق كنيسة قرية صول واعتصام أقباط مصر في ماسبيرو رافعين الصلبان, كتب القاريء مجلي جرجس معلقا يقول نحن هنا.. نحن الاقباط..! مشيرا الي ما أوجزته عن المهام الملحة أمام مصر بعد ثورة25 يناير: بناء نظام سياسي ديمقراطي ودولة مدنية; غير عسكرية وغير دينية, بدءا من إقرار دستور جديد, يحمي, ودون انتقاص, حقوق المواطنة; شاملة الحقوق والحريات والواجبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبغير تهوين من دور القوي الداخلية والخارجية في شن الثورة المضادة, بافتعال الفراغ الأمني وبث فوضي المطالب الفئوية والانفلات المؤسسي والترويع بالبلطجة, فقد رأيت وأكرر أن الإنتقاص من حقوق المواطنة هو التفسير الأهم لثورة الكرامة المصرية في25 يناير, التي جسدت الوحدة الوطنية المصرية, منذ فجرها الشباب واحتضنها الشعب وحماها الجيش. ويبقي أهم ما يفسر المحاولات التي لن تتوقف لإشعال فتيل الفتنة الطائفية في أعقاب الثورة: ما يراه المسيحيون المصريون انتقاصا من حقوق المواطنة أو خطرا محدقا بها, وهو ما يغذيه بعض من الحق وكثير من التحريض المغرض, وما تتبناه جماعات الاسلام السياسي من فكر يدعو الي دولة الخلافة وولاية الفقهاء, وإن اصطدمت دعوتهم بجدار الوحدة الوطنية المصرية العنيدة في صلابتها الراسخة طوال تاريخ مصر الألفي! ولا ريب أن قرار القوات المسلحة المصرية باعادة بناء كنيسة صول في موقعها خطوة حاسمة نحو بناء دولة المواطنة, تماما كما أن حوارها مع ممثلي أقباط مصر دحض لفرية انحيازها لقوي الاسلام السياسي في تشكيل لجنة التعديلات الدستورية! بيد أن بناء دولة المواطنة المصرية وحماية وحدة مصر الوطنية يتطلب أن يكون قانون الأحزاب السياسية الجديد قاطعا في تحريم تأسيس أحزاب تنهض علي أسس دينية, أو تدعو الي دولة دينية, أو تنتقص من مباديء الدولة المدنية, أو لا تعترف برامجها بكامل حقوق المواطنة بغير لف أو دوران! ولا جدال أن حماية الثورة الوطنية الديمقراطية المصرية تتطلب تفعيل دور الباحثين والمفكرين والمثقفين والاعلاميين والمعلمين في محاربة الجهل بأسس الوحدة الوطنية المصرية, وهو ما حاولت المساهمة فيه قبل الثورة. وقد أعيد ما أوجزته في مقال الدين لله والوطن للجميع أساس تكوين مصر, المنشور في الأهرام بتاريخ3 مارس2010 لم يكن شعار المصريين العظيم الدين لله والوطن للجميع وليد ثورة1919 بل كان أساس تكوين مصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة, حين أقام المصريون رغم تنوع معتقداتهم أول دولة مركزية وأمة موحدة في التاريخ. فقد كان قبول وإحترام الآخر المختلف دينيا ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا, أو ما أسماه الآباء المؤسسون القطرين أو الأرضين, حين تجسد قبول وإحترام الآخر في عبادة وبناء معابد آلهة كل منهما علي أرض الآخر. ورغم تعدد المعتقدات المصرية القديمة فقد استمرت وحدة تاجي قسمي مصر لا تنفصم, وكان تعايش أصحاب تلك المعتقدات هو الأساس المتين لرسوخ وحدة مصر الفريدة, سياسيا ووطنيا وثقافيا. وأتصور أنه علي شباب ثورة52 يناير من مسلمين ومسيحيين, تماما كما علي الشعب الذي احتضن الثورة والجيش الذي حمي الثورة, تذكر حقائق ثلاث: الحقيقة الأولي, أنه لا ينكر إلا جاهل أن مباديء ومقاصد الأديان كانت ولا تزال وستبقي مكونا جوهريا في منظومة القيم المرجعية للمصريين, قبل وبعد أن صاروا مسلمين ومسيحيين, وهو ما لا اعتراض عليه في تأسيس أحزاب ما بعد ثورة25 يناير. لكن مصر لم تعرف الدولة الدينية, أي حكم رجال الدين أو الحكم باسم الدين, إلا في العصور الفرعونية تحت حكم الأسرة21, حين حكم كهنة مصر القديمة باسم ما اعتبروه آمون رع من طيبة( الأقصر حاليا), وهو ما عرفه الغرب المسيحي تحت نظم الحكم باسم الحق الإلهي, وتعرفه إيران في ظل ما يعرف بولاية الفقيه. وأما الدين وقيمه ومبادئه فقد عرفتها مصر من فجر التاريخ, حين آمن المصريون بالبعث والحساب وعرفوا خشية الله قبل آلاف السنين من الأديان السماوية. ولنتذكر أنه في مصر, التي احتضنت المسيحية, كانت كنيسة الإسكندرية رائدتها وقلعة مقاومتها الوطنية للاستعمار الروماني, وأنه من مصر, التي دخلت الإسلام, صارت بأزهر القاهرة منارته وكنانته, ودحرت غزوات الصليبيين والمغوليين. والحقيقة الثانية, أن مصر في تاريخها المسيحي ثم الإسلامي, قد حكمها بشر في دولة مدنية. وينبغي ألا نقوم حكامها, سواء الوطنيون أو الأجانب, بمزاعمهم عن حماية العقيدة المسيحية أو تطبيق الشريعة الإسلامية, وإنما بما عرفته البلاد من خير أو شر, وما عرفه العباد من ظلم أو عدل, سواء بالنسبة للمصريين أو لغيرهم من الشعوب. وقد تكونت الأمة المصرية ولم تعرف وحدتها الوطنية والسياسية القسمة طوال آلاف السنين إلا استثناء, لأن الدين لله والوطن للجميع كان ومازال أساس تكوينها من فجر الحضارة وحتي ثورتها الراهنة. ولنتذكر ما شهده ميدان التحرير من مظاهر الوحدة الوطنية, رغم ما سبق الثورة من احتقان طائفي, ورغم محاولة اختطافها بشعارات تفرق ولا توحد. ولنتذكر دائما أن مصر المستقبل التي تتشكل أمامنا, بدماء شهداء الثورة, لن تنهض إلا علي أساس مبدأ المواطنة, الذي قاد إهداره الي تفكيك العراق وتقسيم السودان, ويهدد بالتقسيم غيرهما من البلدان. والحقيقة الثالثة, أن مصر لم تعرف التعصب الديني منذ البداية وإلي النهاية, ولا عرفت الحروب الدينية الدموية أو المذابح الطائفية, كالتي عرفتها أوروبا مثلا, ولا محاكم التفتيش ومحارق الكفار! وكان الاضطهاد الديني والتشيع, علي ندرتهما النسبية, يأتيانها دائما, من الخارج, وسرعان ما كانا يلفظان إلي الخارج, كما يقول العقاد في كتابه عن سعد زغلول; حيث الإشارة هنا هي أولا إلي فترة الاضطهاد الديني أيام المسيحية الأولي والإشارة ثانيا هي إلي فترة الشيعة التي أدخلتها الفاطمية ثم ماتت معها ميتة طبيعية. إنها, أي مصر, كما قال كعب الأحبار, بلد معافاة من الفتن. وتعدد الأديان هو الذي جب التعصب الديني حيث تعاقبت وانتهت إلي التعايش. وهذا وذاك جعل التسامح ضرورة حياة. وإذا كانت الأزمات الوطنية اختبار أحماض قاسيا للوحدة الوطنية, فقد أثبت الأقباط فيها أنهم إذا كانوا لا يزيدون عن معظم المسلمين مصرية بالأصل الإثنولوجي, فأنهم لا يقلون عنهم مصرية بالحس الوطني. ومصر نحن نخلص- ليس لها مشكلة طائفية ولا عانت مشكلة أقليات, إلا أن تكون من صنع أو وهم الاستعمار, أو من إفرازات عصور الانهيار والانحطاط السياسي, كما كتب جمال حمدان صاحب شخصية مصر. [email protected] المزيد من مقالات د. طه عبد العليم