نواجه اليوم كدولة ومواطنين, مجموعة من التحديات الكبيرة والمهام الصعبة علي طريق بناء الدولة المدنية, دولة كل المواطنين, فهناك تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية, بكل تفرعاتها وجزئياتها. وهناك الفجوة الهائلة في العلوم والتكنولوجيا بيننا وبين العالم المتقدم, وهناك أمراض البطالة والفقر ومختلف أشكال الفساد المجتمعي, وأيضا تحديات الطبيعة من سيول, وتصحر, وأزمة مياه التي أصبحت مصدرا رئيسيا للتوتر بين دول حوض النيل, يضاف إلي ذلك ما نعانيه الآن من أزمات القمامة والتلوث وغيرها, ذلك علي الرغم من كل الجهود المبذولة حكومية وأهلية. هذا إلي جانب تفشي ثقافة رفض الآخر سواء علي الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الديني حتي لو كنا أبناء مجتمع واحد نرتبط بتاريخ واحد يضمنا عبر أحقاب وأزمنة طويلة خلقت منا نسيجا واحدا. ليس الهدف هنا حصر هذه المشاكل والتحديات, إنما الهدف هو الوقوف علي مدي خطورتها وصعوبتها, وصولا إلي التأكيد علي حقيقة أنه لم يعد بمقدور أي قوي سياسية أو اجتماعية أن تتصدي بمفردها لمواجهة وحل لمجمل هذه المشاكل والأزمات والتحديات. إن هذا الواقع البالغ التعقيد والخطورة يفرض علي جميع قوي المجتمع الحية, سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية, ضرورة التعاون معا, وفتح أبواب حوار جاد ومسئول حول أفضل الوسائل والأساليب لمواجهة الواقع المأزوم والانطلاق نحو آفاق أرحب وأفضل للمستقبل. لا يعني هذا مجرد الوصول إلي صيغة ما من صيغ التحالف بين مجموعة من القوي في قيادة دفة الحكم أو في المعارضة, ذلك أن الأهم في تقديري هو إقامة جسور حقيقية خلاقة وإبداعية للحوار بين كل قوي المجتمع, في الحكم أو في المعارضة, في الدولة أو في إطار المجتمع المدني, فمن المؤكد أن لكل دوره ومسئوليته, ولكل حقه وواجبه, وليس من الحكمة في شيء نفي أحد أو تجاهل أي من هذه القوي. أو الرفض التام لكل الجهود المبذولة من قوي ليست في الحكم. وإذا كان صحيحا أن موضوع الحوار قد سبق طرحه مرات عديدة دون أن يؤتي بالثمار المرجوة, أو يرقي بنتائجه إلي مستوي الآمال المتوقعة, فذلك يعود إلي أن أبواب الحوار قد انفتحت ربما دون إدراك عملي لقيمة الحوار وإيمان حقيقي بأهميته. إن الحوار لا يمكن أن يكون جادا وحقيقيا ومثمرا إلا عندما تصبح المواطنة قيمة مجتمعية راسخة في الوجدان الجمعي للمواطنين والحكام. والمواطنة من حيث هي مساواة كاملة في الحقوق والواجبات, ومن حيث كونها ممارسة عملية علي أرض الواقع لحقيقة تنبع من قناعة أكيدة بأنه ليس ثمة من يمتلك الوطن وحده, أو الحقيقة الكاملة, أو الحلول لكل المشكلات سواء في الإطار الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو الديني, أقول عندما تصبح المواطنة, من حيث هي كل تلك القيم والمبادئ معا, ثقافة مجتمعية متجسدة في السلوك اليومي وفي مناهجنا التربوية والدينية والثقافية وعملنا السياسي والاجتماعي, عندها يمكن أن نضمن قيام حالة حقيقية من التعاون المثمر والجاد والبناء ما بين مختلف القوي المجتمعية لمواجهة وحل المشاكل والأزمات التي تهدد حاضر الوطن ومستقبله, وهكذا أظن أننا لا نبتعد كثيرا عن الحقيقة عندما نقول إن القدرة علي تحويل قيمة المواطنة إلي واقع يومي معيش هي نقطة البداية الصحيحة للانطلاق نحو بناء المجتمع وقيام الدولة بمفهومها المدني, دولة كل المواطنين دون محاباة أو تميز ضد أي فئة من فئات المجتمع والوطن الواحد. وهكذا نحتاج في إطار الدولة المدنية إلي تماسك كل أبناء المجتمع الواحد لأن البديل هو الحروب والصراعات والدمار والمجاعات والأوبئة إلي غير ذلك من الأزمات. ومن جانب آخر فإن بناء الدولة المدنية القادرة علي مواجهة وإدارة التحديات الكبري التي تتهددها يستدعي بالضرورة بناء مؤسسات هذه الدولة وتطوير علاقات صحية وصحيحة بين المجتمع السياسي( السلطة) وبين المجتمع المدني( المواطنين), علاقات تقوم علي فهم وإدراك كل منهما لأدواره وتوجهاته وعلاقته بالطرف الآخر, فلكل من المجتمع السياسي والمجتمع المدني قضاياه واهتماماته التي يجب أن تلتقي جميعها عند مصالح الوطن والمواطنين وبناء المصير الواحد وأن تتميز هذه العلاقة بالاحترام والتقدير المتبادل والحرية والديمقراطية والعدالة التي تتمثل ليس فقط في احترام حقوق الأغلبية أو النخبة بل واحترام حقوق العوام والأقليات والفقراء في المجتمع بنفس القدر والمساواة وهنا يجب التمييز بين عدم قناعتي الشخصية بما يعتقده المواطن غيري وبين حريته كمواطن في الدولة المدنية في اختياراته الدينية والسياسية والاجتماعية. وفي هذا الإطار تصبح مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية قادرة علي حماية مصالح وحقوق واختيارات المواطنين وقادرة علي انجاز أعمالها دون تعطيل أو روتين أو فساد, وتحقيق العدالة للجميع دون تمييز أو محاباة. ويصبح لدي مؤسسات المجتمع المدني( المواطنين) حرية للعمل في المجال العام للمجتمع بإبداع وجرأة في تناول القضايا ومواجهة التحديات الهامة للمجتمع إلي جانب القدرة علي رقابة المجتمع السياسي ونقده دون خوف أو تملق أو محاباة, كما أن المجتمع المدني يجب أن يعمل في إطار ضوابط الصالح العام للمجتمع ولا يخضع لأهواء الصالح الخاص ويعمل في إطار رقابي متفق عليه دستوريا وقانونيا. ان بناء الدولة المدنية في هذا الاتجاه يسهم بصورة حقيقية في تشكيل مناخ يتبني قيمة المواطنة ويحفز عليها فيتحرك المجتمع جميعا بتضامن نحو تقدم المجتمع ونهضته ونحو مواجهة التحديات والكوارث وبناء المصير الواحد لصناعة مستقبل أفضل.