ماذا نحن فاعلون في الفترة المقبلة؟.. ولكي تنهض مصر. إن تشييد بناء متين وسليم, يبدأ من استخلاص دروس اللحظة الراهنة: أولا: من اكتشاف مصر لنفسها, ولمواطن قوتها, التي أثبتتها ثورة25 يناير. وثانيا: من التعامل الجدي مع الخلل الذي أصاب مكونات نظام سياسي, توحي النظرة اليه من خارجه, وكأنه نظام قادر علي مباشرة دوره كأي نظام حكم, علي حين ان ما تراه العين هو قشرة خارجية, يتستر وراءها بناء متداع ينخر فيه السوس. لقد كان النظام يختار أعمدته بمواصفات الشخصية المتأرجحة, الجاهزة لخلع رداء استقلالية الموقف وصدق الكلمة.. شخصيات منبطحة منصاعة, لا يخجل الواحد منهم ان يحني رأسه نفاقا وتهليلا وتبريرا لكل خطأ وخطيئة. مع استثناءات قليلة, حتي لا نظلم من احترم نفسه وأخلص في عمله. لكن الأكثرية كست وجوهها طبقات متراكمة من النفاق الفج والتلون الزاعق, وأكثر من ألقي بهم في العمل الحزبي والسياسي, كانوا مقطوعي الصلة بالسياسة, فلم تأت نشأتهم عن طريق النمو والتطور والتربية السياسية, فكانوا نماذج مصنوعة ومعلبة سياسيا, صحيح أن منهم خبراء فاهمون للسياسة لكن هؤلاء كانوا القلة, أو من لا تطرب أصواتهم آذانا. في هذا المناخ تكلس العقل السياسي للنظام, الذي كسته قشرة غليظة غطت عينيه, وحالت بينه وبين رؤية الأمور علي حقيقتها, فانغلق علي ذاته, وحين يحدث ذلك, وتكون سلطات رأس الدولة قد اتسعت, وطبول ومزامير النفاق تدوي في رأسه, ويصير هو الآمر الناهي بلا رقيب أو حسيب, فإن ذاته تتمدد, بينما مساحة الدولة علي مرمي بصر تتقلص, ويري نفسه والدولة شيئا واحدا. وأستأذن في استعارة جملة من كتابي الاصلاح السياسي من أين يبدأ الصادر في2008, قلت فيها:ان التخلف يصيب عقل الحاكم, حين يكون ما هو فيه راكد أو فاسد, فهو عائد إليه, لأنه أسير ذاته فما يسمعه هو نفس ما يقوله.. وما يقوله لا يتجدد ولا يتطور, ولا يلم بما يجري من حوله. فيصاب عقله بالضمور السياسي. ومن هذا العقل الضامر, تصدر قراراته ومواقفه وأفعاله. كل هذا كان وراء الأسباب التي خلقت ما بدا انه مأزق سياسي, عاشته مصر, لمدة18 يوما منذ25 يناير وحتي11 فبراير.2011 ان ما حدث هو ان النظام ضاقت نظرته فلم يستوعب ما يحدث, وضعف إدراكه عن فهمه, وبقي يتعامل مع ثورة فعلية, علي أنها شيء أشبه بانتفاضة الخبز لعام1977, أو مظاهرات الطلبة عام1968, غير مدرك أو مصدق أنها ثورة. وان الثورة بحسب تجارب التاريخ, ومعايير علم السياسة, لها قوة دفع جارفة, كالفيضان الهادر, وكل ما يوضع في طريقها ليس سوي سدود ترابية, لابد أن تكتسحها المياه المتدفقة بلا توقف. وظلت المسافة تتسع, لأن ما كان يدور هو صراع ارادات بين جانبين, أحدهما يعبر عن واقع ثورة شعبية مكتملة الأركان, والثاني يمثل نظاما تهاوي وسقط بالفعل, ونهايته قد حسمت, لكنهم كانوا لا يعلمون. كان أركان النظام السابق جاهلين بتاريخ بلدهم, أو أنهم يزيفون التاريخ حتي أن أحدهم قال ذات مرة. الناس في مصر لا تشغلهم مسائل السياسة أو الديموقراطية, فهذه مسائل تنشغل بها النخبة وحدها. وقال آخر إن المصريين لم يكن لهم في تاريخهم وتراثهم, علاقة بالسياسة ولا بالأحزاب, وان تلك أمور كانت قبل ثورة52, بعثة مقصورة علي ثلاثة أطراف هما: الملك, والانجليز والأحزاب. أولم يقرأوا ان ثورة19 صنعتها جماهير الشعب المصري, التي خرجت مرة واحدة في كل المدن والقري, وبتنظيم لا مركزي من الجماهير نفسها, أو انتفاضة المصريين عام1935 التي اشتعلت في مدن وقري مصر بنفس الطريقة, تردد هتافا واحدا هو الغاء دستور1930, واعادة العمل بدستور1923 الذي ألغاه اسماعيل صدقي, ونجحت الجماهير في الحالتين في فرض إرادتها علي الدولة. ان النظام قد صنع بيديه أخطاءه التي فتتت عظامه, وكان منها علي سبيل المثال لا الحصر: 1 ان قيادة الدولة والغالبية العظمي من وزراء حكومتها, بدا عليهم انقطاع تام بينهم وبين ما يجري في العالم من تغيير, بعد ان أصبح التغيير المتسارع هو فلسفة العصر وقاعدة عمله منذ دخل العالم عصر ثورة المعلومات. وبدوا هم كالهواة, بالمقارنة بنظرائهم في دول قريبة منهم معظمها في آسيا, تقود عمليات تنمية اقتصادية, وكشوف علمية, وبعث للهوية والكرامة الوطنية, حولتها الي دول ناهضة,منتجة, ومصدرة, بينما سياساتهم مقطوعة الأنفاس تدور حول نفسها, وتبقي علي مصر دولة مستوردة مستهلكة, رغم تراثها الهائل في الموارد المادية والبشرية. 2 تدني الأداء التنفيذي. ويكفي للتدليل عليه, ما شهده قطاع التعليم من جمود وتخلف عن مسايرة التطور المتلاحق في أنظمة التعليم في العالم, والمسئولون عندنا يصمون آذانهم عن صرخات خبراء ومختصين تنبه وتحذر وتطالب, ومن كان منهم علي علم وخبرة ومنهم من حاول ان يصلح لكن العجلة كانت تدور في اتجاه مخالف. 3 في عالم الدول النامية, فلسفتان متعارضتان لأمن أي دولة, هما الأمن القومي وأمن النظام. وفي الدول التي أخذت بأمن النظام, فإنها تحشد امكانات الدولة وراء هذا التوجه, مما يسحب من رصيد الأمن القومي, ومن طاقة التأهب لردع التحديات الخارجية. وترتبت علي ذلك سلبيات كبري من أبرزها تضخم دور الأمن, وتداخله في مجالات ليست من شئونه, وليس مؤهلا لها أصلا, بعضها شهدناه في تدخل في التعيينات في الجامعات, ومرافق أخري, حتي وصل الأمر الي خطط العروض المسرحية. وكان ما كان من زرع رقيب أمني, غير ظاهر] في أذن المسئول, يملي عليه المسموح به والممنوع. ان بناء النظام القادم في مصر,يحتاج الي مراجعة الكثير من الاوضاع لتعديل ميزان الأمور الذي اختل. وفي هذا المقام سأركز علي مطلب واحد مهم وهو إنشاء مجلس للأمن القومي, الي جانب أي رئيس قادم, علي غرار المجالس المماثلة في الدول المتقدمة, يضم أصحاب الخبرة والتخصصات في مجالات السياسة والاستراتيجية, والاقتصاد, والاجتماع, وعلم النفس السياسي, بشرط اختيارهم من اصحاب الرؤي المتنوعة, ليقدموا للرئيس فكرا ثريا صادقا, وموضوعيا, ويضعوا أمامه خيارات, يختار هو منها ما يراه طبقا لمسئولياته, ولكي تنهض مصر. المزيد من مقالات عاطف الغمري