من المفترض ان تكون السيول بشري للخير في البلدان التي تقيم بنية اساسية جيدة لاستقبالها وتخزين مياهها النقية في خزانات طبيعية أو صناعية لاستخدامها في الزراعة والشرب. لكنها تتحول إلي قوة تدمير مروعة في البلدان التي لاتقيم مثل هذه البنية الاساسية أو تصيبها العشوائية, ويتمكن منها الفساد بحيث يتم الاعتداء علي البنية الاساسية التي بنيت في فترات سابقة لاستقبال وتصريف السيول بصورة آمنة, بصورة تضاعف من الخسائر التي تتسبب فيها السيول, ومازالت اثار كارثة السيول التي بلغت ذروتها في سيناء واسوان حاضرة في حياة مئات الآلاف ممن تهدمت منازلهم أو تعرضت لأضرار جسيمة, واقتلعت اشجارهم ونفقت قطعان مواشيهم ودمرت سياراتهم وممتلكاتهم, فضلا عمن قضوا او اصيبوا في هذه الكارثة, شاهدا علي الكيفية التي تتحول فيها سيول المياه مصدر الحياة والخير, إلي قوة تدمير هائلة, رغم انها كان من الممكن ان تمر باضرار طفيفة لو كان هناك احترام للقانون وللقواعد التي تمنع البناء في مخرات السيول الرئيسية والفرعية وتفرض بناء انفاق كافية لمرور السيول تحت الطرق التي تعترض مجري اي سيل رئيسي أو فرعي, لو كانت هناك كفاءة في تفادي الكارثة بعد توقعات الارصاد الجوية الموفقة بأن هناك امطارا غزيرة وسيولا قادمة. لكن لأن العشوائية صارت ملمحا سائدا في مصر, فإن المواطنين لم يأبهوا للخطر الهائل الذي ينطوي عليه البناء في مجاري السيول علي اعتبار انها مجار جافة منذ سنوات طويلة, وان الخطر الذي يمكن ان يأتي منها مؤجل طويلا, أو ربما توهموا انه من تراث الماضي ولن يأتي اصلا, وهي نظرة لاعلاقة لها بالعقل والعلم, وانما هي وليدة الحاجة والبلادة والتواكل والنزعات الغيبية التي تغيب العقل, لكن إذا كان هذا شأن سلوك بعض الافراد نتيجة الحاجة أو الجهل, فإن اجهزة الدولة والادارات المحلية التي منحت تراخيص البناء للمواطنين في تلك المواقع الخطرة, والتي وافقت علي ادخال المرافق إلي تلك المنازل لايمكن ان يكون الجهل مبررها لان الخرائط التي تحدد مخرات السيول ومجاريها الرئيسية والفرعية موجودة لديها, وبالتالي فإن الفساد وحده هو المبرر الذي يمكن ان يجعل مسئولي هذه الجهات يمررون مخالفات البناء في مخرات السيول الرئيسية والفرعية, سواء تعلق هذا الفساد بتلقي رشاوي من اصحاب المنازل, أو بكسب ولائهم واصواتهم في الانتخابات المحلية والعامة بكل مستوياتها, والأسوأ من قيام المواطنين بالبناء في مخرات السيول, هو قيام الدولة ذاتها بالأمر نفسه كما هو الحال بالنسبة للمباني العامة التي دمرتها السيول, أو اوقعت بها اضرارا جسيمة في العريش, ولان الدولة هي بمثابة قدوة لمواطنيها, فإن تجاوزها للقواعد والقوانين يشجع المواطنين علي فعل الشيء ذاته. وإذا كانت الخسائر التي أوقعتها السيول بالمناطق التي نكبت بها قد بلغت مئات الملايين من الجنيهات, فان تكلفة المباني والمنشآت العامة التي بنيت في مجري السيل في العريش وحدها تتجاوز ال100 مليون جنيه, وتفترض أبسط قواعد الشفافية والمحاسبة ان تتم محاسبة من اتخذوا قرار البناء في مجري السيل في مدينة تحوطها صحراء مترامية الاطراف يمكن البناء في مواقع مختلفة منها بدلا من مجاري السيول, كما ان كل من قاموا بمنح تراخيص البناء وادخال المرافق في المناطق الممنوع البناء فيها لابد ان يحاسبوا علي ما ارتكبوه من مخالفات ساهمت في تضخيم حجم كارثة السيول, وإلي جانب المحاسبة الضرورية لمنع اي مسئول من مخالفة القانون مجددا, فإن هناك ضرورة لتجديد الخرائط التي تحدد المجاري المحتملة للسيول وبناء أو تطوير البنية الاساسية الضرورية لاستقبالها وتخزينها في خزانات طبيعية أو صناعية, والاستفادة منها بأقل التكاليف الممكنة حتي لو كانت تحدث مرة كل عقد أو عدة عقود من الزمن, مع وضع خطوط حمراء صارمة لمنع البناء في مجاري السيول الرئيسية والفرعية والمنخفضات الطبيعية التي يمكن ان تتجه السيول إليها. وعلي صعيد آخر فان التعويضات الحكومية التي تم إقرارها للمتضررين من السيول تستحق التأمل فعلا, حيث قررت الدولة اعطاء30 الف جنيه للبناء والتأثيث لمن تهدم منزله ودمر اثاثه, في حين يتراوح سعر الشقة الخالية التي تبلغ مساحتها63 مترا بين100 و120 الف جنيه ضمن المشروع القومي للاسكان في الجزء الذي تقوم الشركات الخاصة ببنائه بعد ان تحصل علي الارض بسعر10 جنيهات للمتر بدون مرافق, أو70 جنيها للمتر بالمرافق وتحصل علي15 الف جنيه عن كل شقة تقوم ببنائها, بما يعني ان سعر الشقة المذكورة يتراوح بين115 و135 الف جنيه, بغض النظر عن الارض الممنوحة بأسعار رخيصة. ولابد ان يكون هناك اتساق في التقديرات, فإذا كانت الدولة تشرف علي مشروع للاسكان يبيع الشقق الصغيرة بهذه الأسعار, فإن التعويضات التي تقدمها للمتضررين من السيول يجب ان تكون متسقة مع هذه التقديرات, بما يعني ان ابسط قواعد العدل تفرض علي الدولة مضاعفة تعويضاتها للمتضررين, خاصة وان اجهزتها واداراتها وقياداتها المحلية مسئولة بصورة اساسية عن اتساع نطاق كارثة السيول من خلال منح التراخيص للبناء في مناطق تقع ضمن مجاري السيول الرئيسية أو الفرعية, بل ان الدولة ذاتها قامت ببناء بعض منشآتها في تلك المناطق مما قدم قدوة سيئة للمواطنين وقدم في النهاية صيدا ضخما للسيول عندما ساقتها يد القدر إلي المناطق المنكوبة بها, ولم تكن هي من غير المسار حتي يتفاجأ البشر بها, بل كانت العشوائية والفساد هي من وضع البشر والممتلكات في وجه الطوفان لتقع الكارثة, فهل من محاسبة وعدالة في التعويضات؟. المزيد من مقالات احمد السيد النجار