من يقول إن ما حدث في تونس لن تكون له أي آثار علي باقي العالم العربي يكون واهما. وليس معني ذلك أن كل الشعوب العربية ستنزل إلي الشارع للثورة أو من أجل التعبير عن غضبها, إنما الآثار التي أقصدها سوف تختلف في نوعيتها وسرعة وقوعها نظرا لتباين الأوضاع في بلدان العالم العربي وأمزجة الشعوب وتجربتها السياسية الحديثة وتاريخها. وأغلب الظن أن هذه الآثار ستكون إيجابية وتساعد المجتمعات العربية علي الخروج من حالة الغيبوبة الحضارية التي تعاني منها برغم توافر كل إمكانيات التقدم والنمو والازدهار من أموال البترول إلي الثروات الطبيعية والبشرية. ولعل الكل يتفق علي أن الشعب التونسي قد عبر عن إرادته من خلال المظاهرات وأن موقف الجيش التونسي الذي رفض إطلاق النار علي المتظاهرين كان له دور حاسم في اقتلاع حكم زين العابدين بن علي. وربما كان أول الدروس المستفادة هو عدم الاستهتار بإرادة الشعوب وبإمكانية أن تبدي غضبها المكتوم في أية لحظة ودون أية مقدمات. ويتميز العالم العربي بخاصية ديناميكية فريدة وهي أن غالبية أبنائه من الشباب حيث أن نحو60% من العرب تقل أعمارهم عن30 عاما. ومن أبرز سمات الشباب أنه لا يتحلي بصبر الكبار ويتطلع إلي حكومات تقدم الحلول السريعة لمشكلات المجتمع من البطالة إلي غلاء المعيشة إلي حرية التعبير وغير ذلك. ومن الواضح أن زين العابدين بن علي قد أخفق في منح الشعب التونسي ما كان يصبو إليه وخذل توقعات وأحلام الشباب في بلاده وكانت خطيئته الكبري هي تلجيم الألسنة في عصر الإعلام المفتوح والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة مثل يوتيوب وتويتر وفيسبوك. ولا شك في أن أزمة العالم العربي الأولي هي الديمقراطية. ويبدو الأمر لمن يراقب الخريطة السياسية للعالم وكأن الدول العربية لديها مناعة خاصة ضد تطبيق النظام الديمقراطي. ومنذ ربع قرن كانت غالبية دول العالم تشاركها في تلك الحصانة الغريبة ضد الديمقراطية وكانت معظم شعوب العالم الثالث تخضع لأنظمة تقمع إرادتها ولا تترك لها حرية الاختيار سواء في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. لكن رياح الديمقراطية قد هبت بشدة علي كل هذه الدول فأصبح في معظمها انتخابات حرة وتداول للسلطة وصحافة تنتقد الحاكم وتفضح التجاوزات. ورأينا للمرة الأولي سقوط رؤساء جمهورية في الانتخابات الرئاسية ونجاح المنافسين وهو دليل حي وملموس علي نزاهة الانتخابات وحرية اختيار الشعوب. وربما كان من أبرز هذه التجارب ما حدث لرئيس السنغال السابق عبده ضيوف الذي خاض الانتخابات وهو علي قمة السلطة وخسرها فترك المنصب لمنافسه عبد الله ويد. وهناك تفسير منطقي لتأخر الديمقراطية في العالم العربي. فالديمقراطية تستلزم مناخا من التوافق العام بين مكونات المجتمع المختلفة وعدم وجود تيار متطرف من الممكن أن يجرف البلاد إلي المواجهات والصدامات الداخلية. وكانت الشيوعية في الماضي من أهم عوائق التقدم نحو الديمقراطية حيث كانت تفرض علي المجتمع نمطا حديديا من النمو وأسلوب المعيشة. وإذا كان قد ازدهر في مصر نوع من الديمقراطية في النصف الأول من القرن العشرين فالسبب أن كافة الأحزاب والتيارات كانت تتفق علي الأساسيات وكان علي رأسها في ذلك العصر ضرورة استقلال البلاد كما كانت كل الأحزاب تنادي بالليبرالية وحرية الرأي والعقيدة وتقبل بالتعددية وتداول السلطة والهزيمة في الانتخابات. لكنه في الوقت الذي كانت الديمقراطية تحقق فيه انتصارات في كل مكان كان العالم العربي يواجه أوضاعا جديدة حيث تنامت تيارات متطرفة تسعي لاستغلال الدين من أجل الوثوب إلي السلطة. ومشكلة هذه التيارات هي أنها ترفض التعددية ولا تؤمن بالنظام الديمقراطي لأنها متوهمة أنها تمثل دون غيرها إرادة الله سبحانه وتعالي علي الأرض. والحكم باسم الدين يتعارض من حيث المبدأ مع الديمقراطية. فمن يتصور أنه يحكم باسم الله لا يمكن أن يتنازل عن السلطة سواء بسبب خسارة الانتخابات أو لأي سبب آخر حيث أنه في هذه الحالة سيترك مقدرات البلاد لطرف آخر لا يحكم من وجهة نظره بما أنزل الله. ولو كان من ينادون بالحكم باسم الدين أمناء مع أنفسهم فمن المستحيل أن يتقبلوا فكرة الديمقراطية من أساسها. وكان ذلك هو السبب في إجهاض التجربة الديمقراطية في الجزائر في بداية التسعينات عندما انتصر التيار الإسلامي فقامت السلطة بإلغاء نتائج الدور الأول للانتخابات. واستوعبت كل الدول العربية الدرس وتقبل الكثيرون في العالم فكرة أنه لا بد من تأجيل التجربة الديمقراطية في العالم العربي إن كانت ستؤدي إلي الفوضي أو إلي سيطرة أنظمة متطرفة. وعندما أجرت السلطة الفلسطينية انتخابات حرة منذ ستة أعوام فازت بها حماس فازدادت القناعة بأن العالم العربي ليس جاهزا للديمقراطية لأن حماس لن تقبل التنازل عن السلطة بعد ذلك. ولو تمكنت التيارات السلفية من السيطرة علي السلطة في تونس في المرحلة المقبلة فسوف يشكل ذلك انتكاسة جديدة للديمقراطية علي عكس التكهنات التي تؤكد أن ما حدث في تونس سيفتح الباب للحكم الديمقراطي في البلدان العربية. وعلي حدود عالمنا العربي قامت التجربة التركية التي أثبتت نجاحها منذ أكثر من سبعين عاما وجعلت تركيا تقفز إلي مصاف الدول التي تحظي بقدر كبير من التقدم والازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي. وتتلخص التجربة في أن الجيش يقوم بدور الضامن للدستور. فالجيش في تركيا لا يحكم ولا يتدخل إطلاقا في السياسة. لكنه يسهر علي احترام الدستور من قبل جميع الأطراف ويمنع أي طرف من التلاعب به لصالحه والاستيلاء علي السلطة بصفة أبدية. فالجيش في تركيا هو حارس الديمقراطية دون أن يكون طرفا في معادلة الحكم. وأتصور أنه يتعين علي القادة العرب الآن إعادة النظر في كثير من المسلمات والبدء في تحريك المياه الراكدة. لا بد من فتح أبواب الحرية والتفاعل مع نبض الشارع. لا بد من ضخ دماء جديدة في الآلة السياسية بكافة الدول والتخلص من بعض الوجوه التي ملتها الشعوب. لا بد من الكف عن التصريحات التي تستفز الناس والتي يطلقها بعض المسئولين في العالم العربي دون الوعي بنتائجها البعيدة الأجل.