إذا كنت قد تحدثت بإسهاب- علي مدي الأيام الماضية- عن واقع العجز العربي في المجالين الاقتصادي والاجتماعي فإن ذلك لم يكن لينشأ لولا ذلك الداء اللعين الذي استوطن منذ سنوات بعيدة في جسد السياسة العربية وهو داء الحيرة والتردد والعجز عن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وبالتالي استمرار التخلف عن ركوب قطار العصر حقبة بعد حقبة ؟!. لقد كنا أسبق من دول الاتحاد الأوروبي في الدعوة إلي إقامة سوق عربية مشتركة بسنوات طويلة حيث انطلقت دعوتنا بينما كانت أوروبا مازالت ترمم بنيانها المادي والنفسي بعد الحرب العالمية الثانية التي أنهكت أوروبا ودمرتها اقتصاديا وسياسيا ومعنويا ومع ذلك فإن أوروبا التي كانت في حالة حرب مع نفسها استطاعت أن تعبر محنتها وأن ترتفع فوق جراحها وأن تتجاوز خصوماتها وأن تبني وحدة سياسية واقتصادية باتت مؤهلة لكي تكون الند المنافس للقوة الأمريكية العملاقة.. أما نحن فقد اكتفينا بإطلاق شعارات الوحدة ونداءات التكامل ولم نتقدم خطوة واحدة إلي الأمام وإنما علي العكس تراجعنا كثيرا وكثيرا جدا نحو الوراء وأصبح الحلم في حماية الأوطان العربية من التقسيم والتفتت هو قمة المني وغاية المراد!. والحقيقة أن داء العجز العربي عن اتخاذ القرار السليم في الوقت السليم ليس مقصورا علي القضايا الاجتماعية والاقتصادية فحسب وإنما هو أيضا سبب حالة العجز السياسي التي نعاني منها حتي اليوم.. وباستثناء المرة الوحيدة التي نجح فيها العرب في الخروج من طوق الحيرة والتلكؤ في حرب أكتوبر عام1973 التي تحقق فيها أول نصر استراتيجي عربي في التاريخ الحديث فإن الأمور عادت إلي طبيعتها بعد أن توقفت المدافع وبدأ الموقف العربي الموحد في التآكل وعاود الداء اللعين الانتشار في الجسد العربي مجددا خطايا العجز والحيرة والتردد وعدم القدرة علي اتخاذ القرار السليم في الوقت السليم, ومن ثم جاء القرار العربي متأخرا عام1996 باعتبار السلام خيارا استراتيجيا بعد أن كانت قد حدثت متغيرات دولية عميقة لم تكن في مصلحتنا وبعد أن كانت إسرائيل قد أحدثت علي الأرض تغييرات ديموجرافية واسعة زادت من تعقيد المشكلة وزيادة مصاعب حلها علي نحو ما نراه ونعايشه الآن من مستوطنات تمزق الأرض الفلسطينية وتقطع أوصالها... وأيضا فقد جاءت صحوة الاهتمام العربي بالمسألة السودانية صحوة متأخرة وبعد فوات الأوان مما عزز من حجج دعاة الانفصال ومن يحرضونهم من خارج الحدود!. ولم أكن في سطر واحد مما كتبته في هذه الإطلالة علي المشهد العربي منزعجا من الحاضر فقط وإنما لأنني أستشعر المجهول المختبيء في تلابيب المستقبل خصوصا ما يتعلق بالاحتمالات الكارثية لملف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتداعيات القرار الظني الوشيك أو تداعيات استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان ومخاطر الاستسلام للطموح الكردي علي حساب وحدة التراب العراقي... فضلا عن ذلك الذي جري في تونس ويستحق مزيدا من الاهتمام ومزيدا من التأمل في مخاطر استمرار إغماض العيون عن تداعيات التلكؤ في سياسات التنمية والتردد في اجتثاث الفساد والعجز عن توفير الحد الأدني من العدالة الاجتماعية. *** خير الكلام: ** لاشيء يغتال الحقيقة سوي اشتداد اللدد في الخصومة والصراع!.