إن ألم الميلاد يحمل لنفس العذراء الطاهرة آلاما أخري لم تتوقعها ولم تقع بعد: كيف يستقبل الناس طفلها هذا؟ وماذا يقولون عنها؟ إنهم يعرفون أنها عذراء.. فكيف تلد العذراء؟! هل يصدق الناس أنها ولدته بغير أن يمسها بشر.. وتصورت نظرات الشك.. وكلمات الفضول.. وتعليقات الناس.. وامتلأ قلبها الطاهر بالحزن.. ولم تكد مريم تنتهي من تمنيها الموت والنسيان.. حتي ناداها الطفل الذي ولد: فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا(24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا(25) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا(26). نظرت مريم إلي المسيح.. ما أنبل وجهه.. لم يكن وجهه أحمر مجعدا مثل من يولد.. لكنه كان ناعما أبيض.. وقد ارتسم عليه الطهر والمحبة.. وكان الطفل يرقد علي حشائش الأرض الخضراء ويتكلم.. يحدثها أن تكف عن حزنها.. ويطلب إليها أن تهز جذع النخلة لتسقط عليها بعض ثمارها الشهية.. فلتأكل.. ولتشرب.. ولتمتلئ بالسلام والفرح ولا تفكر في شيء.. فإذا رأت من البشر أحدا فلتقل لهم إنها نذرت للرحمن صوما فلن تكلم اليوم إنسانا.. ولتدع له الباقي. ونظرت مريم إلي المسيح بحب..كان طفلا لم يزل مولودا منذ لحظات.. لكنه يحمل مسئولية أمة علي كتفيه.. كما سيحمل بعد ذلك آلام الفقراء علي كتفيه. ومدت مريم يدها إلي النخلة الضخمة.. ولم تكد تلمس جذعها حتي تساقط عليها رطب شهي.. فأكلت وشربت ولفت الطفل في ملابسها.. وألصقته بقلبها واستسلمت لعذوبة النوم.