عامة المصريين قبل خاصتهم, أعادوا اكتشاف وطنيتهم بعد الجريمة الإرهابية النكراء ضد كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة رأس السنة, وضد المصلين فيها, وقد اتفقوا جميعا علي أننا اقتربنا من حافة الهاوية. ولم يكن الاجماع العفوي. عليأن مرتكب أو هذه الجريمة لايمكن أن يكون مصريا, مؤسسا علي تحليل واع لمعلومات متاحة, ولكنه كان تعبيرا تلقائيا عن الإيمان بأن ما حدث وبالطريقة التي حدث بها هو تطور دخيل علي الشخصية الوطنية المصرية, وعلي أعراف المجتمع المصري, علي الرغم من وجود أسباب ومظاهر للتوتر الطائفي بين الحين والآخر, أما حسرة المواطن العادي علي الأيام الخوالي التي لم يكن فيها أحد من المصريين يشغل نفسه بما اذا كان جاره أو صديقه أو زبونه أو شريكه أو زميله مسلما أو مسيحيا, فهي التعبير الأصدق إنباء من كل الكتب والتعليقات عن المثل الأعلي الطبيعي لمصر كما يجب أن تكون.. وكما يؤمن بها أبناؤها, وكما عهدوها من قبل. إذن ليس مصريا من يريد فرض الطائفية عليها, ولكن السؤال يبقي واردا بل وملحا: من يريد فرض الطائفية علي مصر؟ ليس في أيدينا معلومات موثقة, ولكن أمامنا قرائن, وقبل التطرق إليها نود القول بوضوح قاطع, أن أقباط مصر أفرادا وجماعة فوق أية شبهات بهذا المعني الآن وفي الماضي, ولنتذكر معا أنه طوال التاريخ لم يتهم قبطي واحد في قضية جاسوسية, وأن الأرشيف الصحفي عندما تضمن مسيحيا متهما بالجاسوسية لم يكن قبطيا, ولكن كان من طائفة غير مصرية الاصل, كما أن الأقباط أنفسهم هم الذين رفضوا مبدأ التمثيل النسبي في دستور3291, مثلما رفضوا من قبل حماية قيصر روسيا, وحماية لورد كرومر, وأن قبطيا مصريا تطوع لاغتيال رئيس الوزراء القبطي المرشح( يوسف وهبة باشا) عندما خرج علي إجماع الأمة وقبل رئاسة الحكومة, بينما كان سعد زغلول ورفاقه في المنفي, ونحن هنا لا نمتدح الاغتيال السياسي, ولكننا نمتدح الروح الوطنية التي دفعت عريان يوسف لإحباط مسعي السراي والاحتلال لكسر إجماع الأمة, باغتيال يوسف وهبة باشا, حتي لا يفعلها مسلم فيتجدد الاتهام الذي شاع بعد اغتيال بطرس غالي باشا( الجد) قبلها بعدة سنوات, والذي كان يعزو حادث غالي باشا الي التعصب الإسلامي ضد الأقباط, وبمناسبة الحديث عن اغتيال بطرس باشا غالي بتهمة ممالأة الاحتلال, يجب ألا ننسي هنا أن كثيرا من الساسة المسلمين في ذلك العصر اتهموا بممالأة الاحتلال من أول محمد سلطان باشا في أثناء الثورة العرابية, حتي أمين عثمان باشا وزير مالية الوفد الذي أغتيل لهذا السبب نفسه عام.6491 علي أيدي مسلمين إذن يظل السؤال قائما: من يريد فرض الطائفية السياسية علي مصر؟ إذا أخذنا بنظرية وجود مخطط شرير للتطهير الديني ضد المسيحيين في الشرق الأوسط, وآخر من تحدث عنها بهذا الوضوح هو الرئيس الفرنسي ساركوزي, فإن هناك من يدير ويمول تنفيذ هذا المخطط, ومع ذلك فإذا افترضنا البراءة في نيات ساركوزي, فإن هذا المخطط لا يرمي الي تصفية الوجود المسيحي في الشرق الأوسط بقدر ما يرمي الي فرض التقسيمات الطائفية والمذهبية علي الدول العربية, دون استثناء لمصر, ومن المؤكد أن الذي يريد, ويمول, ويخطط ليس من داخل هذه الدول, إلا كطابور خامس, وإلا كعناصر منفذة, أما العقل القائد أو الmastermind فهو بالقطع من خارج المنطقة, وهو يستغل أسبابا داخلية لاشك في وجودها لتمرير وإنجاح هذا المخطط. ولا يحتاج اكتشاف أن هذا العقل القائد في الخارج إليكثيرمن الجهود, فمنذ سبعينيات القرن الماضي بدأت مراكز أبحاث بعينها ومفكرون استراتيجيون بعينهم يتحدثون بصوت عال عن حاجة غربية ملحة لاحياء الهويات الطائفية والمذهبية في دول الشرق الأوسط العربية, باعتبارها النقيض الموضوعي والطبيعي لأيديولوجية التكامل القومي العربي, واكتسب هذا الفكر زخما هائلا بعد هجمات11 سبتمبر الارهابية علي نيويورك وواشنطن, ومع تبني إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش( الابن) رؤية المحافظين الجدد الاستراتيجية الذين قال بعضهم صراحة إن غزو العراق هو البداية, ثم تليها السعودية, لكن الجائزة الكبري هي مصر. مرة أخري نقول إن ذلك لا يعني إنكار وجود أسباب وذرائع وعوامل فشل داخلية في كل دولة علي حدة تهيئ الفرصة لاستغلالها لمصلحة ذلك المخطط الشرير بالمعني الذي نتحدث عنه, وليس بالمعني الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي. واذا كنا نجزم أن مآل مخطط من هذا النوع هو الفشل في مصر بسبب ما رصدناه في السطور الأولي من هذا المقال من اعادة اكتشاف عامة المصريين وخاصتهم لأصول وطنيتهم, فإن ذلك لا ينفي أنه حقق نجاحات تدعو الي الاحساس بأقصي درجات الخطر, ففي مصر احتقان طائفي, وفي السودان تقسيم, وفي العراق طائفية, والجزائر دخلت حربا أهلية لم تتعاف منها, واليمن علي وشك أن تنزلق الي حروب طائفية, أما لبنان فإن صيغة التعايش مهددة في كل لحظة, وليست تلك فحسب هي نجاحات مخطط فرض الطائفية في الشرق الأوسط, ولكن ما لا يقل أهمية ذلك هو النجاح في إدراجها علي جدول أعمال القوي الكبري, والمنظمت الدولية بداية من الفاتيكان, وقد كان ساركوزي وهو يتحدث عن مخطط شرير لتطهير الشرق الأوسط من المسيحيين يعكس هذه الحقيقة, التي بلغت ذروتها في إدخالها الي جدول أعمال مجلس الأمن بالبيان الرئاسي للمجلس حول جريمة كنيسة سيدة النجاة في العراق في نوفمبر الماضي, ثم ها هي وزيرة خارجية فرنسا ورئيس وزراء ايطاليا يطلبان رسميا إدراج قضية مسيحيي الشرق الأوسط علي جدول أعمال الاتحاد الأوروبي, ولنتذكر أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما تحدث في خطابه الشهير بجامعة القاهرة في شهر يونيو من العام الماضي, عن المسألة القبطية في مصر بموازاة المسألة المارونية والمسيحية عموما في لبنان, وهو الحديث الذي لم يلتفت إليه كثيرون في غمرة الابتهاج بلغة الاحترام التي تحدث بها أوباما( عندما كان في أوج بريقه) عن الإسلام والمسلمين. أخيرا ليكن واضحا أننا لا نتهم ساركوزي أو وزير خارجيته, ولا نتهم بابا الفاتيكان ولا رئيس الوزراء الايطالي, كما لا نتهم الرئيس الأمريكي بأشخاصهم بتبني مخطط فرض الطائفية علي الشرق الأوسط ومصر أو الضلوع فيها, وكل ما نريد قوله هو أن أخطاء الداخل, والقوي المعنية بالتقسيم الطائفي للشرق الأوسط في الخارج, نجحت في دفع القضية الي مكان بارز بين قضايا السياسة الدولية, ولكن يبقي الحل دائما في الداخل.