ليس الشعر صومعة عاجية يطل منها الشاعر علي مباهج الحياة أومآسيها, ويتأمل من نوافذها الكائنات بحياد بارد قد يكون هناك شعر تأملي أو فلسفي, ولكن الأصل في الشعر أنه لسان جماعي يعبر عن أحلام الناس ورؤاهم, والعلاقة بين الشعر والحياة كالعلاقة بين الضمير والعقل. أحيانا يكون الضمير هو المحرك للعقل, وأحيانا يصمت الضمير أو يستسلم لإرادة العقل النفعية. والناس يحسون جيدا بفطرتهم السليمة متي ينفصل الشاعر عن ضميره, ومتي تتوحد كل قواه في وهج واحد ينصهر فيه القلب والعقل والضمير, ويتحول هذا كله الي كلمات. أذكر في الخمسينيات, حين كنا طلبة في المدارس, إننا كنا نحفظ أشعار أبي القاسم الشابي ونعلقها علي جدران غرفنا في البيوت.. يقول الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر ولقد كنا نعرف جميعا ان الشاعر كان مريضا ضعيفا يعاني من قلبه كإنسان, برغم ضعف الشاعر ومرضه وإشارته الي هذا المرض في كثير من أبياته مثل قوله: ياموت قد مزقت صدري وقصمت بالإرزاء ظهري برغم ذلك كان الشاعر بالنسبة إلينا هو قوة الإرادة التي تقول: سأعيش رغم الداء والأعداء أرنو الي الشمس المضيئة لا أرمق الظل الكئيب ولا أري كالنسر فوق القمة الشماء بالسحب والامطار والأنواء مافي قرار الهوة السوداء كان الشاعر يومئذ قوة تستعصي علي المرض والخوف والاعياء والموت. كان قوة من قوي الكلمة.. وهذا شأن الكلمة إذا صدق ضمير صاحبها.