زيارة خاطفة للصديق الأستاذ عبدالعظيم درويش مدير تحرير جريدة الأهرام خرجت بعدها مشتركا في خدمة الرسائل الإخبارية السريعة لالأهرام التي يشرف عليها سيادته. كنت سعيدا بتلك الخدمة التي تأخرت قليلا لكنها جاءت, وفي صباح اليوم التالي بدأت الأخبار تتوالي, القبض علي توربيني جديد اغتصب طفلا ثم قتله واعتدي علي7 آخرين.. مسرع خمسة وإصابة61 في حادث في أثناء موكب للزفاف.. شلل مروري علي المحور بسبب تصادم خمس سيارات.. مصرع8 سائحين في تصادم بأبوسمبل..65 حالة وفاة بإنفلونزا الخنازير. هذه عينة من الأخبار القصيرة السريعة التي يرسلها الأستاذ عبدالعظيم درويش كل صباح يلاحقني بها أينما كنت, وقد سبق أن وعدني بأنه سوف يضعني علي مقربة من الأحداث في مصر والعالم. عرفته منذ سنوات قلما ساخرا, وصحفيا بطبعه, وشخصا ضاحكا, وسميرا خفيف الظل, سريع البديهة. كنت أظن أن بيننا ودا قديما, ولم يدر بخلدي يوما أنه يحمل لي كل ذلك الغضب حتي يصيبني بالغم كل صباح بمثل هذه الأخبار التي يرسلها. شكوته لرئيس التحرير وكدت أرفع الشكوي لرئيس مجلس الإدارة. عاتبته ورجوته أن يدس بين تلك الأخبار من وقت لآخر خبرا واحدا دافئ المشاعر يبعث البهجة في النفس والجسد المعذبين بمشكلات طريق الإسماعيلية كل صباح ومساء, لكنه نادرا ما يستجيب, ثم إنه يعلم طبيعة عملي التي لا تجبرني علي أن أردد فيمن حولي من وقت لآخر وحدووووه حتي يصر علي أن يرسل لي كل صباح بقائمة القتلي علي الطرق, والموتي في المستشفيات. أعترف بأن صياغة تلك الأخبار القصيرة بارعة وتمثل مدرسة صحفية جديدة, لكننا ماازلنا في اختلاف, هو مصر علي أن الأخبار السلبية هي الأساس في صحافة اليوم, وأنا أطالب بحقي في قليل من الأخبار التي تبعث الأمل في اليوم أو الغد. فأنا مستعد للتضحية بخبر جريمة أو حادثة طرق سوف ينتهي بمصمصة الشفاه حسرة علي ما كان, مقابل خبر ثقافي أو سياسي أو اقتصادي له تأثير أطول عمرا في حياتي, وحتي لا يفهمني الصديق العزيز غلط فأنا أؤكد أن المجتمع لا يهتم كثيرا بالأحداث, ولابد من الإلحاح عليه بالوقائع السلبية التي تهدد نظام المجتمع والتركيز عليها حتي يمكن نشر الوعي بها, وبالتالي تصحيحها, لكن التركيز علي السلبيات فقط أو الاهتمام المفرط بها يمكن أن يصيب المجتمع بحالة من اللامبالاة وفقدان الرغبة في التصحيح, كما هو الحال الآن في مصر, فالرشوة مثلا خطأ لكن التعايش معها خطيئة. والحقيقة هي أن وجهة نظر الأستاذ درويش هي السائدة عالميا بين المهنيين علي الأقل منذ منتصف القرن الماضي وحتي الآن, حينما تحول الخبر من خدمة إلي سلعة تخضع لكل آليات التسويق والذي يريده الناس, فالأخبار السلبية تتزايد باطراد في الصحف, وفي نشرات التليفزيون, بينما تتراجع تلك النوعية من الأخبار التي أبحث عنها, وليس مهما إن كانت تلك الأخبار الرديئة تصيب الناس بالكآبة والإحباط, أو تمهد الطريق للعنف وزيادة معدلات الجريمة, ولم تعد المشكلة في زيادة نسبة الأخبار السلبية, لكن المشكلة الأكبر أن أخبارا مثل الجريمة والعنف والفساد والكوارث والحروب تحظي باهتمام كبير وتغطية متميزة بارزة ومفصلة, حتي أن الرئيس الأسبق للجنة الطاقة الذرية الأمريكية والحائز علي جائزة نوبل في العلوم الطبيعية, حذر من أن العقود الأخيرة من القرن الماضي يمكن أن تنذر العالم بمقدم يوم الحساب الرهيب بسبب تلك الأخبار التي تلاحق الناس بالشر والفساد والعنف والجريمة, فتنشر اليأس والكآبة, فهي أخبار لا توحي للناس أبدا بأن العالم لايزال جميلا, وأن ما به من الجمال أكثر مما به من القبح, وفي أواسط ثمانينيات القرن الماضي تصدرت سباق الأغنيات الأمريكية أغنية قليل من الأخبار الدافئة احتجاجا علي سيطرة الأخبار السلبية. الدارسون الغربيون يقولون إن السبب في ذلك هو أنهم في الغرب يعتبرون النجاح والتقدم شيئا طبيعيا ومتوقعا, وإذا ما وقع الفشل أو الإخفاق فإنه يستحق الاهتمام والإبراز عبر وسائل الإعلام حتي يمكن التصحيح, وهذا كلام دعائي ظهر إبان الصراع مع الشيوعية التي كانت تري هي الأخري أن نشر الخبر السلبي جريمة, إلا إذا كان متعلقا بدولة رأسمالية, فالحقيقة هي أن الطبيعة التجارية لوسائل الإعلام الغربية فرضت التركيز علي كل ما يمكن أن يضمن قاعدة واسعة من القراء تزيد معها العائدات المالية, والأخبار السلبية أكثر إثارة للقراء من تلك الأخبار الإيجابية, لذلك كانت هي الأولي بالرعاية. هذا المفهوم انتقل مع مفاهيم إعلامية غربية كثيرة إلي مناطق واسعة من العالم دون أن يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها في المجتمعات الغربية, فالتركيز علي الأخبار السلبية يمكن أن يؤدي إلي التغيير والتصحيح في أي مكان وليس في الغرب فقط, ولكن أمر التغيير معقود علي القوي الاجتماعية أو السياسية التي تسمح به أو تستطيعه وليس علي نشر الأخبار السلبية أو التركيز عليها. أحد العلماء الأمريكيين اختار مجموعتين من الناس وسيطر تقريبا علي نوعية الأخبار التي يستمعون إليها. كانت المجموعة الأولي تستمع إلي أخبار معظمها إيجابية من نوعية رجل في مقتبل العمر يعاني فشلا كلويا يهدد حياته ما لم يتبرع له أحد بكليته, وقد أذاعت محطات الراديو نداءات للمساعدة, وتقدم رجل إلي المسستشفي متبرعا بكليته ورفض أي مقابل لذلك, حتي تكاليف نزع كليته في المستشفي أصر علي أن يدفعها, أما المجموعة الثانية فقد تعرضت لنوعية من الأخبار السلبية ومنها علي سبيل المثال قيام أحد رجال الدين بقتل سيدة تبلغ من العمر ستة وسبعين عاما, كانت محبوبة من جيرانها, وقام القاتل بشنقها بطريقة توحي بأنها قد انتحرت, وكانت قد أعطته مفتاح شقتها لرعايتها. في نهاية الدراسة وجد الباحث اختلافا كبيرا بين المجموعتين في النظرة إلي الحياة والناس والرغبة في تقديم يد المساعدة. غالبية الناس لا تدري الذي تفعله وسائل الإعلام بهم وبصحتهم النفسية. نحن نعتمد في الغالب علي وسائل الإعلام في التعرف علي مايجري حولنا وكلما زاد إعتمادنا عليها اعتقدنا أن الحياة ليست تلك التي نعيشها فعلا, وإنما هي تلك التي تظهر علي شاشات التليفزيون, وعلي صفحات الصحف, فإذا كانت الرشوة والقتل والفساد والحروب والكوارث, وغياب الروح الإنسانية هي مفردات الحياة في وسائل الإعلام, فإننا نفقد شيئا فشيئا الشعور بقيمة هذه الحياة, ونعاني شيئا من الإحباط, ليس لأن الحياة في واقعها الحقيقي كئيبة, لكنها تبدو كذلك علي شاشات التليفزيون, وعلي صفحات الصحف. من أجل ذلك كنت معاتبا صديقي عبدالعظيم درويش ومطالبا بحقي في قليل من الأخبار الدافئة تعينني وغيري علي العمل من أجل تصحيح الأخطاء التي تحملها الأخبار السلبية التي أري نشرها ضرورة أيضا. وفي النهاية أود لو أن صديقي العزيز استدعي هذه الأبيات القليلة لبيرم التونسي وقد كتبها شاكيا أهل المغني وليس أهل الإعلام: شاكي وباكي وقال موش عارف يشكي ويبكي لمين واللي جابت له الداء والكافية طرشة ما هش سامعاه ياأهل المغني دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله