'السيدة من تل أبيب' واحدة من أقوي وأنضج روايات المنافي الجديدة, كتبها' ربعي المدهون' وهو صحفي فلسطيني يحمل الجنسية البريطانية, ويعيش في لندن, يبلغ الخامسة والستين من عمره. ولا أعرف كيف يتأخر كاتب بموهبته وكفاءته السردية إلي هذه السن حتي يكتب رواية جيله, من أبناء المكابدات المهجرية الذين عجنتهم ثقافة الغرب, فأرهفت حواسهم علي مفارقات الحياة, وأرتهم كيف تمتد جذور مآسيهم الشخصية إلي عصب الحياة الإنسانية المعاصرة, بكل زخمها وشعريتها, ففجرت طاقاتهم علي تخليق متخيل إبداعي يفوق الواقع المشهود في نضرته وكثافته وجماليات شعريته. لا غرو أن صعدت هذه الرواية مع أنها تكاد تكون الأولي لصاحبها- إلي القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية, ففيها سبيكة من التجارب المتفردة لدقائق العلاقات الشائكة في الوضع العربي الإسرائيلي, وفيها ماهو أخطر من ذلك وميض الروح الفلسطيني الذي يتوهج بالسخرية ويتدرع بالأمل وهو يتمرس بصناعة الحياة من قلب الموت المحيط به. العرائس الروسية: تقوم رواية السيدة من تل أبيب علي بنية متداخلة تشبه لعبة العرائس الروسية المتوالدة, فهناك مقدمة يحكيها الراوي عن بطله' وليد دهمان' الموازي تقريبا لشخصية المؤلف الضمني وهو يزمع العودة لزيارة أمه في قطاع غزة بعد غيبة دامت ثمانية وثلاثين عاما, حيث يستحضر في هذه المقدمة ما نشب في ذاكرته عن أمه وصحبه وحياته قبيل رحيله بعد النكسة, فيتذكر مثلا قاموس أمه الطريف في التعليق علي ألفاظه طبقا لحالات الرضا والغضب, فلو تخيل أنه قال لها عقب زيارته لقبر أبيه إنه ينصحه بأن يتزوج فسترد عليه من مخزون لغتها الخاصة' جيزة تجز رقبتك, وتجز جنازتك إن شاء الله, وعندما يضحكه تخيله يواصل: وإن قلت لها طالع بترد: تطلع روحك, وإن قلت نازل بتجاوبني: تنزل المية من زورك, وإن قلت لها نايم, نامت عليك حيطة, لكن أمي عندما تكون راضية علي تقلب القاموس الأسود أبيض, الجيزة بتصير نفرح في جيزتك, وطالع بترد عليها يطلع لك السعد, ونازل خفيف علي قلبك, ونايم نومة الهنا يمة, وإن قلت لها ماشي نمشي ونزغرد في زفتك إن شا الله'. لكن هذه الأم الصابرة هي عمود البيت الذي يتهدم علي رأسها عدة مرات خلال الاجتياحات المتكررة, فتصر علي تعميره وتبييضه وتتحسس بعينها سقفه المجدد وأركانه المرممة داعية له بأن يظل مأواها المفتوح لاحتضان أبنائها وذويها; إذ مهما توغلوا في هجراتهم أو خطفت الرصاصات الطائشة للاحتلال أوالاقتتال زهرتهم فإن الأم تظل هي الشجرة المعمرة, تصبح هي الوطن والذاكرة, وتظل طرائفها اللغوية ولفتاتها الحانية والغاضبة زاد الوجدان ووقود الذاكرة في صقيع المنافي البعيدة والقريبة. ينفتح القسم الثاني من الرواية علي مشهد الطائرة التي يعود فيها وليد من لندن إلي مطار بن جوريون, حيث تجلس إلي جواره حسناء إسرائيلية يتوجس منها في البداية, ثم لا يلبث عندما يراها وقد احتضنت رأسها بين كفيها وأجهشت ببكاء مكتوم أن يربت علي كتفها ويسألها هل أنت بخير,' نحتاج إلي تلك اللمسة أحيانا حتي من غريب, لكني لست مجرد غريب فحسب, بل أنا الآخر, أنا الذات التي تقلق وجودها, وهي الوجود الذي يقلق ذاتي, هي إسرائيلية كما تؤكد لهجتها, ولابد أن تكون قد أدت خدمتها في الجيش, وربما أمضتها في الأراضي الفلسطينية, قد تكون هي التي أطلقت النار علي أولاد عمي وأبناء خالي, أو وقفت علي حاجز تنشف ريق عجوز فلسطينية, أو تعرقل مرور أخري حامل بدلا من أن تكون قابلتها وهي امرأة مثلها, قد تكون كل هذا أو بعضه, لكنها قد تكون أيضا خارج هذه التوقعات كلها'. لكن مفاجأة النص تكمن في توزيع الرؤية علي الطرفين; فهي تتولي سرد بعض الفصول, ونعرف منها أنها ممثلة إسرائيلية ناجحة تدعي' دانا أهوفا' تتبادل الحوار مع وليد, كأنها شخصية في رواية, تقترح عليه أن يشتركا في كتابة قصتهما بعنوان' ظلال لبيت واحد' بتناوب الفصول, تبدأ رواية أخري داخل الرواية بهذا العنوان, تكشف المرأة عن أسرارها الحميمة للقارئ لا لرفيقها في الطائرة, إذ بها غارقة في قصة عشق مستحيل مع الوريث الوحيد لحاكم عربي مجاور, وبعد أن اتفقا علي إعلان ارتباطهما الذي سيغير خريطة الشرق الأوسط اختفي فجأة دون سابق إنذار, ولم تستطع لقاءه في آخر مرة تواعدا فيها, ولا إخباره بنطفة الجنين الذي تحمله دون أن تدري علي وجه اليقين هل هو أبوه أم صديقها اليهودي الملحاح. نتابع بالتوالي حيوات متوازية لكل من وليد ودانا حتي بعد افتراقهما في المطار علي وعد بالتواصل حيث يمر وليد بأوجع تجربة لعودة كسيفة عبر معبر' بيت حانون', يستقل سيارة تمر بالرملة, يري لافتة كتب عليها' شارع نحمان حاييم بياليك' فيقول بمرارة في نفسه' ضحكت في سري بمرارة, وتمتمت بلا صوت كمن يهذي بتأثير نوبة حمي: صار نحمان بياليك الشاعر اليهودي رملاوي, وصار له شارع باسمه في الرملة, وجورج حبش مطلعلوش شارع لا في مسقط رأسه اللد اللي ما تبعد عن الرملة شبرين ولا في مخيم الوحدات في الأردن, ولا جمهورية الفاكهاني في بيروت, بياليك اللي جاي من ورا البحر صار رملاوي, وحبش ابن البلد صار لاجئ وراء البر والبحر' خواطر بسيطة لكنها دالة علي قسوة فعل الاستيطان. في الجزء الأخير المتوالد من الرواية يجسد ربعي المدهون بشكل فذ معاناة الفلسطينيين علي المعابر في القطاع, تتحول مشاهد التحقيقات الصحفية إلي صفحات شعرية مفعمة بأدق اللفتات والإشارات الذكية عن البشر ومصائرهم والمدن وتحولاتها, في ومضات مكثفة ومشاهد عائلية مشحونة بالتفاصيل والنزاعات, يحكم الكاتب ربط كل الخيوط المتناثرة وحل تعقيداتها باقتدار سردي لافت, ويحسن طرح هذا الشجن الهائل الذي يغمر الشخوص والأماكن دون مبالغة, فينقل لنا إيقاع الحياة علي ضفتي الحدود في سيرة السيدة الإسرائيلية ومسيرته الفلسطينية بفصول مفعمة بأقوي زخم لنبض الحياة يتفجر من خلال السرد.