كان من المفترض أن نستهل عامنا الجديد بمحاولة تقييم الحراك الثقافي الذي شهدته مصر في العام الماضي وأن يكون التركيز علي جوانبه الإيجابية. ولكن الحادث المؤسف الذي تواترت أنبائه في الساعات الأولي من العام الجديد بكنيسة القديسين بالإسكندرية والذي يشي بمحاولة إختراق المجتمع المصري وتغييب الضمير والعقل لمصلحة دعاوي التطرف والفرقة, يفرض علينا أن نتوقف أمام هذه المحاولات وأن نحاول رصدها من منظور ثقافي. وعبر مرايا الكتاب و المفكرين لتحليل وتبرير حالة الالتباس والضبابية التي يواجهها الضمير المصري في مواجهه الأزمة الحالية التي استنكرتها جميع فئات الشعب المصري والتي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن أزمات سابقة تطلبت تحديد مفاهيم الانتماء والسيادة و الكرامة الوطنية و المواطنة والشرف و الضمير. وقد عبرت جموع المثقفين عن صدمتهم و استنكارهم للضربة التي تهد أمن و استقرار المجتمع المصري وطالبوا باعلان يوم للحداد العام تنكس فيه الأعلام و تقام فيه الصلوات في دور العبادة تعبيرا عن استنكار ورفض شعب مصر بكل طوائفه للحادث المشين و لكل ما يهدد نسيج شعب مصر من محاولات مشبوهة لتغييب العقل و الضمير المصري واستلاب موروثه الحضاري و علي كل ما شكل خزانة الوعي المصري علي مر التاريخ. وفي ظني أن الأحداث المؤسفة التي باتت تهدد أمن هذا الوطن لايمكن قراءتها إلا من خلال منظور متكامل أحد أضلاعه الأساسية البعد الثقافي. فإذا كان عام2010 قد بدأ بأزمة مصادرة ألف ليلة و ليلة و تجدد قضية حرية الإبداع و ملاحقة الكتب التراثية, ثم شهد صيفه متوالية رحيل عدد من رموز الفكر المستنير والأدب في مصر والعالم العربي, فقد أبي شتاؤه الرحيل قبل أن يفاجئنا باختفاء منبر قانباي الرماح بعد شهور قليلة من سرقة لوحة زهور الخشخاش للمرة الثانية علي التوالي والتهام النيران في حريق أرشيف محكمة الحقانية بالإسكندرية لملفات120 ألف قضية تقع في المرحلة التاريخية ما بين عامي1945 و 1989 ستة آلاف كتاب ومرجع قانوني وعدد من اللوحات الأثرية النادرة التي يرجع تاريخها إلي عام1886, و تغييب ملامح محطة سكك مصر الأثرية و إهمال مقتنيات متحفها النادرة والتعامل بقدر من اللامبالاة مع مقتنيات المكتبات الجامعية التي تم إغلاقها لسبب أو آخر, الأمر الذي يؤكد مع الأسف استمرار مسلسل إهدار المقتنيات النادرة والتعديات علي التراث المعماري والطابع العمراني وكل ما يشكل ذاكرة و خزانة وعي المصريين. وفي ظني أن كل هذه القضايا والأزمة التي فجرها الحادث الأخير لاتنفصل عن بعضها البعض, وتؤكد أهمية استعادة الوعي بأهمية الموروث الثقافي المصري و الدور الحيوي الذي يلعبه في الحفاظ علي الهوية الوطنية, ومفهوم الدولة المدنية وأن الحديث عن مستقبل الثقافة والمتغيرات و التحديات التي تواجهها الحركة الثقافية ليس ترفا أو انقطاعا عن مشاكل المجتمع و حركته. من جانب آخر فإن لقاءاتنا وحواراتنا مع صفوة عقول مصر علي مدار العام وماسبقه أوضحت بما لا يدع مجالا للشك استشراء حالة عدم الرضي بين المثقفين ومن يتصلون بالحقل الثقافي عموما, وتكرار الشكوي من المعوقات التي تحول دون تفعيل العمل الثقافي ليصبح جزءا من الواقع المصري اليومي. برغم تكرار التأكيد علي أهمية دور الثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة, ومحاولة تفسير كثير من التحولات التي طرأت علي المجتمع المصري وباتت تهدد وسطيته, وقيمة العميقة الجذور من خلال معامل الثقافة.فمن الملاحظ أن السنوات القليلة الماضية قد شهدت ظهور آلاف المقالات ومئات الكتب التي وظفت معامل الثقافة في تحليل و تبرير حالة الالتباس و الضبابية التي يواجهها الضمير المصري في مواجهة العديد من الأزمات التي تتطلب تحديد مفاهيم الحياة والفكر الديني الصحيح وصحيح الدين, وأنها تناولت في معالجاتها لقضايا استشراء السلبية وتغليب المنفعة الفردية علي المصلحة العامة و تراجع قيم الإتقان والعمل والتعاون والعدالة والقدوة و احترام العلم والعلماء والأسرة معامل الثقافة وعلاقته بتلك الحالة التي يبدو فيها المصري وكأنه ممزق بين منظومة الاستمرارية و الاستقرار والتسامح و النزعة السلمية وقيم التكافل و التراحم الأسري التي استقرت في وجدانه عبر العصور و بين ميل للاغتراب و الحذر ومحاولات مستميتة للتأقلم مع ما يفرضه واقع يهمش الثقافة و يعلي القيم المادية و السطحية و التفاهات, علي كل ما شكل خزانة الوعي المصري علي مر التاريخ. والرغم من أن عددا كبيرا من الكتاب قد رصدوا هذه المتغيرات إلا أن السؤال إذا ما كانت هذه التحولات تمثل انحرافا في السمات المعروفة للشخصية المصرية أم أنها نتيجة لمحاولة مشبوهة لتغييب العقل المصري و استلاب موروثه الحضاري و خزانة وعيه, ظل أحد التابوهات المسكوت عنها. من هنا كان قرارنا الإقتراب من المسكوت عنه.. فهل هناك بالفعل محاولة لاستلاب العقل المصري و تجريف ذاكرته وإهدار المخزون الثقافي المصري؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فمن المسئول عن ذلك؟ و هل مجرد استعادة الوعي بأهمية هذا الموروث كفيلة بالحفاظ عليه؟ وما هو المطلوب الآن لحماية خزانة الوعي المصري من الاستلاب و التغييب كي لايتكرر حدث الأمس؟ أسئلة نطرحها علي بعض المفكرين والمبدعين وعلي كل المهتمين بالشأن الثقافي مع أول أوراق عام..2011 ونشاركهم مطالبتهم بإعلان هذا اليوم يوما للحداد الوطني.[email protected]