مدينة الورد، تفاصيل أضخم مشروع في العراق بعقول مصرية، وساويرس: شيء لم ير من قبل بالمنطقة العربية    أسعار الذهب اليوم الثلاثاء بعد الارتفاع القياسي بجميع الأعيرة    هل هناك بنزين مغشوش.. وزارة البترول توضح    بعد هبوطه في 6 بنوك.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه اليوم الثلاثاء 6-5-2025    وسائل إعلام: ترامب لا يشارك في الجهود لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس    تراجع الدولار بعد عودة رسوم ترامب الجمركية    السودان يطلب مساعدة السعودية للسيطرة على حريق مستودعات وقود بورتسودان    غارات إسرائيلية تستهدف سلسلة جبال لبنان الشرقية وبلدة طيرحرفا في جنوب لبنان    الحوثيون: ارتفاع ضحايا قصف مصنع بغربي اليمن إلى قتيلين و 42 جريحا    باكستان ترفض اتهامات الهند لها بشأن صلتها بهجوم كشمير    رونالدو يتصدر تشكيل النصر المتوقع أمام الاتحاد في الدوري السعودي    السيطرة على حريق شب داخل محل نجف بمصر الجديدة    «شغلوا الكشافات».. تحذير من الأرصاد بشأن حالة الطقس الآن (تفاصيل)    إحالة مرتضى منصور للمحاكمة بتهمة سب وقذف خالد يوسف وزوجته شاليمار شربتلي    جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصفين الأول والثاني الإعدادي بالجيزة    رفضته ووصفته ب"المجنون"، محمد عشوب يكشف عن مشروع زواج بين أحمد زكي ووردة فيديو)    طرح فيلم «هيبتا المناظرة الأخيرة» الجزء الثاني في السينمات بهذا الموعد؟    تطيل العمر وتقلل الوفيات، أخبار سارة لعشاق القهوة وهذه عدد الأكواب اليومية لزيادة تأثيرها    الزمالك يستكمل اجتماع حسم مصير بيسيرو عصر اليوم    سقوط تشكيل عصابي تخصص في سرقة المواقع الانشائية بمدينة بدر    ضبط مبلط بتهمة الاعتداء الجنسي على طفل في المنيا بعد استدراجه بمنزل مهجور    شعبة الخضروات: خلال الشهرين المقبلين سيحدث انخفاض في أسعار الليمون    ترامب: لست متأكدا مما يرغب رئيس وزراء كندا في مناقشته خلال اجتماع البيت الابيض    الأزهر ينفي ما تم تداوله بشأن اقتراح وكيله بتشكيل لجان فتوى مشتركة مع الأوقاف    هل يجوز الحديث مع الغير أثناء الطواف.. الأزهر يوضح    5 مرشحين لتدريب الزمالك حال إقالة بيسيرو    مدرب سيمبا: خروج الزمالك من الكونفدرالية صدمة كبرى فهو المرشح الأول للبطولة    رغم هطول الأمطار.. خبير جيولوجي يكشف أسباب تأخير فتح بوابات سد النهضة    لتفادي الهبوط.. جيرونا يهزم مايوركا في الدوري الإسباني    5 أسماء مطروحة.. شوبير يكشف تطورات مدرب الأهلي الجديد    جموع غفيرة بجنازة الشيخ سعد البريك .. و"القثردي" يطوى بعد قتله إهمالا بالسجن    وزير وفنان وطالب :مناقشات جادة عن التعليم والهوية فى «صالون القادة»    نائب وزير السياحة والآثار تترأس الاجتماع الخامس كبار المسؤولين بمنظمة الثمانية    محافظ الغربية: لا تهاون في مخالفات البناء.. واستعدادات شاملة لعيد الأضحى    شريف فتحي يقيم مأدبة عشاء على شرف وزراء سياحة دول D-8 بالمتحف المصري الكبير    سعر الخوخ والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الثلاثاء 6 مايو 2025    مصرع طالب إثر انقلاب دراجة بخارية بقنا    مؤتمر منظمة المرأة العربية يبحث "فرص النساء في الفضاء السيبراني و مواجهة العنف التكنولوجي"    "READY TO WORK".. مبادرة تساعد طلاب إعلام عين شمس على التخظيظ للوظيفة    إيناس الدغيدي وعماد زيادة في عزاء زوج كارول سماحة.. صور    سفيرة الاتحاد الأوروبى بمهرجان أسوان لأفلام المرأة: سعاد حسنى نموذج ملهم    التعليم توجه بإعادة تعيين الحاصلين على مؤهلات عليا أثناء الخدمة بالمدارس والمديريات التعليمية " مستند"    فرط في فرصة ثمينة.. جدول ترتيب الدوري الإنجليزي بعد تعادل نوتنجهام فورست    "كتب روشتة خارجية".. مجازاة طبيب وتمريض مستشفى أبو كبير    احترس من حصر البول طويلاً.. 9 أسباب شائعة لالتهاب المسالك البولية    10 حيل ذكية، تهدي أعصاب ست البيت قبل النوم    4 أبراج «ما بتتخلّاش عنك».. سند حقيقي في الشدة (هل تراهم في حياتك؟)    زيزو أحد الأسباب.. الزمالك مهدد بعدم اللعب في الموسم الجديد    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالجيزة (صور)    "كاميرا وروح" معرض تصوير فوتوغرافي لطلاب "إعلام بني سويف"    على مساحة 500 فدان.. وزير الإسكان يتابع الموقف التنفيذي ل "حدائق تلال الفسطاط"    رنا رئيس تتألق في زفاف أسطوري بالقاهرة.. من مصمم فستان الفرح؟ (صور)    تطور جديد في أزمة ابن حسام عاشور.. المدرس يقلب الموازين    جاي في حادثة.. أول جراحة حوض طارئة معقدة بمستشفى بركة السبع (صور)    أمين الفتوى يوضح حكم رفع الأذان قبل دخول الوقت: له شروط وهذا الأمر لا يجوز شرعًا    الإفتاء توضح الحكم الشرعي في الاقتراض لتأدية فريضة الحج    الدكتور أحمد الرخ: الحج استدعاء إلهي ورحلة قلبية إلى بيت الله    شيخ الأزهر يستقبل والدة الطالب الأزهري محمد أحمد حسن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تانجو وموال
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 12 - 2010

روي عن أحد حكماء العرب من أن رجلا سأله يوما‏:‏ متي أتكلم؟ فقال‏:‏ إذا اشتهيت الصمت وعاد الرجل ليسأله‏:‏ متي أصمت؟ فقال‏:‏ إذا اشتهيت الكلام‏!‏ إلي من صمتوا حين وجب الكلام‏!‏ مفتاح صول
‏(‏ الفصل الأول‏)‏
وأول كلامي الصلاة علي الحبيب
كنز الأرامل واليتيم والغريب
يارب يكون لنا في الزيارة نصيب
كنت علي وشك الهروب مساء أمس‏.‏ أعددت الخطة‏(‏ أ‏)‏ والخطة‏(‏ ب‏)‏ احتياطيا‏,‏ استنادا إلي مشاهداتي السينمائية‏.‏ الخطة‏(‏ أ‏)‏ ضرب طبيبة نوبتجية الليل بآلة حادة لتغييبها عن الوعي‏,‏ ثم سرقة معطفها وارتداء سماعة الكشف ثم الخروج في ثقة من الباب الرئيسي‏.‏ أما الخطة‏(‏ ب‏)‏ فهي الاختباء تحت أطنان القمامة وبقايا الأطعمة في العربة نصف النقل أثناء خروجها‏.‏ ومع ذلك لا أثق أنني سوف أحتمل الشوكة الضخمة التي يعملها رجال الامن في الحمولة ليتأكدوا من عدم وجود أشخاص أو بضائع مهربة‏.‏ ينشط هاجس الهروب في المساء قبل اجتماع بعضهم حولي مباشرة وغرس تلك الحقنة في ذراعي فتسبح أشكالهم وتتداخل أصواتهم‏.‏ أثق أن كلامي محض هذيان وإنني لست بحاجة لوصايتهم‏,‏ كما أنني لست فأرا لتجاربهم‏.‏ صحيح أنه يحق للعازف أن تفلت منه بضع نشازات ويواجه عدة إخفاقات حتي يظهر للجمهور باللحن الأكمل‏,‏ لكنني لست آلتهم الشخصية‏.‏ كما أنني أفهم بعضا مما يقولون‏,‏ فمن فرط سذاجتهم انهم لم يدققوا في التاريخ الشخصي للحالة ليعرفوا انني كنت ذات يوم مثلهم‏..‏ طالبة علم نفس‏.‏ حقيقة لم أكن التلميذة الفذة التي تهوي ما تدرس‏,‏ لأن التحاقي بتلك الكلية كان فقط نزولا عند رغبة آريا‏,‏ لكن في دماغ كل دارس لأي علم صفحات أو سطور مطبوعة‏,‏ لا تتلاشي بمرور الوقت‏,‏ بل يزداد اعتزازه أكثر في تلابيب مخه كلما بعد الزمن‏.‏ سمعتهم مرة يقولون هوس اكتئابي ومرة أخري يقولون فصام‏,‏ ثم أخذت الكلمة تتكرر بتنويعاتها كل حسب ميله الشخصي في نطقها‏:‏ فصام‏.‏ شيزوفرانيا‏..‏ سيكتزوفرانيا‏...‏ المهم أن كبيرهم أمر بإعطائي تلك الإبرة اللعينة بعدما رفضت تناول الأقراص التي كانت تعرضها علي ممرضة الصباح‏..‏ فألقي بجملته في لامبالاة قبل أن يختفي للأبد‏:‏ إدوها حقنة هالدول لحد ما يوصل الدكتور شامل م السفر‏!‏ ألم يدر أي منهم أن الدكتور شامل ذاته من مسببات الهياج؟‏!‏ وحين عاد النفير أقصد الدكتور شامل‏,‏ ألقي نظرة سريعة علي ذات مساء بعدما كانت قد يأست كل محاولاته معي طوال الأيام الأربعة الماضية‏,‏ ثم أعاد ما قالوه مثل أسطوانة مشروخة‏:‏ استمروا علي الهالدول لحد ما ييجي مروان‏!‏ ما‏..‏را‏..‏وان؟؟ دو‏..‏ري‏..‏مي؟؟ ما‏..‏رااا‏..‏وااان؟؟
الليل كله مكاسب بس فيه النوم
والنوم راحة جسد بس عليه اللوم
اليوم أفتح عيني علي إحساس مختلف‏.‏ قلبي لا ينوء بذلك الثقل الذي يفتتح نهاري‏,‏ الصباحات هنا لا بأس بها‏.‏ لم لا ألغي فكرة الهروب مؤقتا وأستمتع بهذا الدور المشمس الذي لا أشهده إلا وهو علي وشك الرحيل لأظل منحبسة في تلك الغرفة التي تشبه الاستديو لحظة انغلاق أبوابه المصفحة ورائي حين تضاء اللمبة الحمراء بأعلاها معلنة أنني علي الهواء؟ الاختلاف الوحيد هو انني حين كنت أجلس أمام المايك كنت أرسل نبرات صوتي وتنحبس مني الروح‏.‏ أما الآن فروحي مرسلة‏..‏ وبإرادتي أحبس الصوت‏!‏ لماذا حرمت نفسي بعد اليوم الأول مباشرة لوجودي بهذا المكان من تلك الأصوات المتناغمة علي اختلاف مصادرها‏,‏ وتركت فكرة الهروب المسائية تسيطر علي رأسي؟ ربما لخبرتي السلبية مع جلساتي الصباحية فوق هذه الدكة الخشبية بالحديقة‏.‏ أحال علي دكتور شامل بعضا من مساعديه في محاولات يائسة لاستنطاقي‏.‏ أقسم أنه لو عرف أي منهم ولو جزءا مما يحويه دماغي من حكمة العالم وخلاصات التجارب‏,‏ لجلس ساكنا فوق هذه الأريكة ووقفت أنا في وسط الحديقة أطلق ضحكة هستيرية عالية‏.‏ لا أدعي امتلاك الحكمة المطلقة‏..‏ هي فقط معارف وأقوال مأثورة جمعها رجال غيروا العالم وأذيعها كفقرات للربط بين البرامج وأقبض في مقابلها أجرا إضافيا في البرامج الاذاعية الموجهة‏.‏ كما أفعل الشيء نفسه في البرنامج الموسيقي لكن مع خلاصات تجارب جهابذة الموسيقي العالمية حتي صرت أري البشر والأحداث مثل آلات وقوالب موسيقية وأصبحت هذه هي وسيلتي السرية في فك شفرات الدنيا‏.‏ أشعر أن أولئك الأخصائيين النفسيين حديثي العهد بوقائع الحياة آلات بدائية لم تصل لطورها النهائي‏,‏ ومن وصل منها إما به وتر مقطوع أو أوكتاف ناقصة‏.‏ الدكتورة شهيرة‏..‏ أحبالها الصوتية في أنفها ليس عن عيب خلقي بل عن عجرفة لا تدعوك بأي حال إلي محاولة الاقتراب‏.‏ فكيف لها أن تنزع الغل من قلب الغير ان كانت لا تطيق نفسها؟ دكتور ابراهيم‏..‏ نيته الطيبة للتقرب ومحاولة إفهامي بأنه يمكنني التعبير بأية لغة تجعله يقوم بحشر كلمات إنجليزية في عباراته‏,‏ فلا أستخلص منها سوي تلك الحروف المشوهة والتركيبات الممسوخة التي تعلو تردداتها حتي تكاد تفتك برأسي‏.‏ الدكتورة منال‏..‏ تواجهني بنصف عين ونصف قلب ونصف روح‏.‏ فالأنصاص الباقية‏,‏ وفقا لما سمعته من حواراتها الجانبية مع زميلتها‏,‏ متروكة بداخل طاجن أرز معمر بفرن بيتها وطفل ينتظر الرضعة القادمة وخادمة تتشكك في أمانتها‏.‏ أما الطامة الكبري فكانت مع دكتور شاهر الأعسر الذي ينطق اللام والراء كالياء‏,‏ فما أن قدم لي نفسه ب الدكتوي شاهي الأعسي حتي اختفت في رأسي بقية أبجديته وتحولت إلي ياءات متشابكة‏.‏ أنظروا من تتكلم‏!!!‏ نزيلة بمصحة نفسية تعاني من فقدان القدرة علي الكلام وتسخر من تركيبات نحوية خاطئة أو لثغة بسيطة عند من يفترض أن يكونوا معالجيها‏.‏ لا ليس الأمر كذلك‏,‏ فالمشكلة تكمن في أنني أشعر أنهم قد أتوا لكي يستمعوا ما حفظوه في دروسهم وإنهم لم ينفتحوا علي نصف ما شاهدته‏.‏ الوحيد الذي يملأ الدماغ هو الدكتور معتز‏.‏ عمره الوسط الذي يعفق وتر الشباب والنضج معا‏.‏ انغراسه في قاع الحياة إضافة إلي أسفاره ودرجاته العلمية من دول العالم الأول‏.‏ سيمفونية كلاسيكية عالمية بنغمات شرقية‏.‏ إلا أنه كالمدرب الماهر علي آلة ما‏.‏ يلقي تلميذه بالعلم ولا يبدأه بالرفق‏,‏ فيوحش التلميذ العلم ويفقد الرغبة في التعلم‏!‏ لذا أفقدني الشغف بأن أبوح له بأنني قادرة علي الكلام وإن كل الحروف والنغمات تدور في رأسي مثل اسطوانة عالية الجودة‏.‏ فقط لا يوجد الجهاز المناسب لتشغيلها‏.‏ لا بأس أبدا بهذه الحديقة الصغيرة وأصواتها المتناغمة‏.‏ حفيف وريقات الأشجار مع هفيف النسيم والزقزقة‏.‏ احتكاك بعيد لكاوتشوك عجلات مارقة علي طريق سريع يمنح إحساسا بالانطلاق والحرية‏.‏ الإيقاع المعدني بالرنة المألوفة لبائع أنابيب يمنح شعورا بحميمية الأحياء السكنية‏.‏ اختلاط أصداء خفيفة للهو طفولي من حوش مدرسة مع زقزقة العصافير يشرح القلب ببهجة البراءة‏.‏ سأشير للممرضة بيدي أنني أرغب في تناول الأقراص بدلا من الحقنة‏,‏ فقد لا يكون للأقراص نفس تأثير الحقنة في تشويش الأصوات وإثقال الأجفان وجفاف الحلق‏.‏ إن وافقت سيسهل مغافلتها والتخلص من بعض أو كل الحبوب حتي أظل في حالة تيقظ يكفل لي الفرار إذا ما عاودتني فكرة الهرب ثانية‏.‏ وقد أحتاج هذا لغرض آخر أيضا‏.‏ الذاكرة‏!‏ فمن بلاهتهم أنهم تفوهوا ببضعة أعراض جانبية لجلسات الكهرباء التي لوحوا بإعطائها لي في حال رفض العلاج وإنها قد تؤدي بجزء من الذاكرة‏.‏ كيف للدكتور شامل وهو من هو أن يستعين بمثل هذه المجموعة من المساعدين المنفرين؟ إن ضيقي منه منذ بواكير طفولتي لم يمح نظرتي الداخلية له بأنه كائن أسطوري‏.‏ مايسترو ذو عصا غليظة يحركها أو يثبتها لينهي سيمفونية عظمي أو حياة إنسان‏!‏ عادة ما تخطف أنفاسنا المحاولات الدؤوبة علي الفرار من السجون في الأفلام السينمائية متمنين النجاح للعملية حتي وإن كان الهارب لصا سابقا أو حتي قاتلا‏.‏ الهروب من ألكاتراز‏..‏ الكونت دي مونت كويستو‏..‏ حب في الزنرانة‏..‏ الهروب الكبير‏.‏ لكن هل شعر أي مشاهد بالانفراج لهروب مختل عقليا من مصحة للأمراض النفسية؟ ومن قال إنني مختلة وكيف أثبت أنني لست مريضة بالفصام بحسب تشخيص أولئك الغرباء الذين أخذوا أقوال بعض الشهود وجمعوا جزءا من الأدلة مثل رجال تحقيقات بعدما تركني دكتور شامل لهم؟
في جمال البدر صلي
علي النبي اللي نوره يبان
صلاة النبي تسلي
هي الفايدة والراسمال
أنا التي تقرر إن كنت مهووسة أم لا‏,‏ فلقد كنت أتلصص علي صفحات المناهج التي تركتها مند ما يقارب العشرين عاما مثل لص يحوم حول جريمته‏.‏ جريمة اقترفتها في حق رباب‏..‏ فيولا‏..‏ أنا‏,‏ حين صممت آريا أمي علي أن أدرس علم النفس لتحقيق أمنية قديمة خاصة بها‏..‏ وإن كلية رياض الاطفال التي كنت أصبو للانتساب إليها‏,‏ لن تمنحني علي حد قولها اللاذع‏,‏ سوي شهادة دادة‏!‏ لا أدري لماذا ظل يطاردني مادرسته وكأنه كان يخشي علي نفسه من الذوبان‏,‏ فيظهر لي مقال من هنا وموقع إلكتروني من هناك أو حديث إذاعي أو تليفزيوني عن تلك الاضطرابات الوجدانية التي تحير البشر؟ هل يعتبرون ما حدث أثناء تقديمي لحلقة أنغام خالدة التي سبقت التحقيق مقياسا لانسحابي وتدهور مستوي أدائي الوظيفي مثلا؟ فقط كنت أنفذ ما قاله الحكماء وعظماء الموسيقي‏:‏ الصمت أكثر موسيقية من أية أغنية‏!‏ جملة بدأ بها الحلقة وناولت مهندسة الصوت بضعة سيديهات لتشغلها‏,‏ ولما كنت أعرف شغف هذه المهندسة بتلقي تليفونات خاصة من أخواتها وكل عشيرتها وإلحاحها في الاطمئنان التليفوني علي أولادها الأربعة‏,‏ فقد أقنعتها في مودة عفوية أن تترك لي السيديهات لأشغلها بنفسي‏,‏ وأن تذهب لإنجاز مهامها العائلية من خلال المحمول خارج الاستوديو لضعف الشبكة بداخله وبعد عشر دقائق اشتعلت اللمبات الحمراء مرة أخري ليتسرب صوتي الهادئ الي المايك بالجملة التالية‏:‏ يرسم الفنان التشكيلي لوحاته علي القماش‏,‏ أما المؤلف الموسيقي فيرسم لوحته علي الصمت‏.‏ شغلت التراك الثاني ثم أنهيت الحلقة بأنه يتحتم علي كل شخص أن يقتني نغماته الخاصة‏,‏ وأعظم تلك النغمات هو الصمت التام‏.‏ بعدها مباشرة إنقلب الاستديو رأسا علي عقب وتوالت المكالمات من الكنترول ورئيسة الشبكة ومكتب رئيسة الإذاعة‏.‏ وكان التحقيق في اليوم التالي لأن السيديهات التي كنت قمت بتشغيلها بين تلك العبارات المأثورة‏..‏ كانت صامتة تماما‏!!‏
قسم يا ناي غنوتي وأنا أقول ياليل تاني
للناس بغني وما في قلبي علي لساني
وياما فيه ناس كتير بتقاسي وبتعاني
ثم لماذا يعتبرون ما بدر مني في المسجد غرابة في الاطوار أو شكلا من أشكال الهوس؟ فليعتبرونني مثل المصريين القدماء الذين كانوا يقدسون الآلهة بالرقص في المعابد‏,‏ أو كالاقباط الذين يرنمون علي نغمات الأورغن في الكنائس‏,‏ أو حتي مثل المريدين من الصوفية الذين يذكرون ويتهللون بكامل أجسادهم حتي يسقط الكثيرون منهم‏,‏ بل ويفقدون الوعي وهم في حالة عالية من الانتشاء والانفعال‏.‏ لماذا إذن يعتبرون موال المسجد هوسا وليس انفعالا؟‏!‏
حلوة حلوة وبتتهشتك‏..‏ حلوة حلوة
أوعي تغيبي يوم عن عشك‏..‏ حلوة حلوة
يا أمورة ياعصفورة‏..‏ أنا عايزاكي تكوني مبسوطة
خلي الضحكة تبان علي وشك
هشك بشك‏..‏ هشك بشك
وحين دخلت مرحلة الصمت الاختياري صنفوه اكتئابا واحتجزوني مع فاقدي العقل‏,‏ مع ان الامر الشائع هو إنه إذا تم العقل نقص الكلام‏.‏ فلم كل تلك الحيل والألاعيب العلاجية والعقاقير الملونة التي تكهرب الجسد والدماغ؟ الأمر الوحيد الذي ربما يكونون محقين فيه هو النغمات والمواويل التي تلح علي رأسي ولا تهدأ حتي أثناء النوم فيأتيني الزار والمولد والسيمفونية والطقطوقة والكونشيرتو علي هيئة أحلام صاخبة تتداخل فيها القوالب الموسيقية بلا تناغم أو تآلف‏.‏ لكن لم يتنصت أحدهم علي رأسي ليدركوا كل هذا النشاز‏.‏ ليتهم يدركون أنني أحتج أن أفصل كل نغمة عن الاخري ثم أجمع الكوردات المتآلفة لأستمتع بالهارموني‏.‏ لو يعهدون بي إلي مايسترو متمرس حاصل علي شهادة من معهد موسيقي عالمي أو كوديا زار مثل سميحة السودانية لتلفني بأمومة حانية وتصالحني علي الأسياد فيتكون الهارموني بين الروح والجسد‏.‏ أما كل أولئك المرتابين بنظرتهم الفاحصة وعقاقيرهم ووخزاتم فلست بحاجة إليهم بحسب المثل القائل‏:‏ لم تنفق الاموال علي العلاج النفسي بينما يمكنك الاستماع الي قداس من مقام بي مينور؟ اخفتي قليلا ايتها المواويل‏.‏ لسنا في مولد سيدي ابراهيم الدسوقي‏.‏ نحن في مستشفي مصحة‏..‏ نف‏..‏س‏..‏ية‏!‏
أنا اللي بنصح الناس لكن عايز متين ناصح
كنا تلاتة أربعة ومات مننا الناصح
ياعيني دا الزهر عندي بيعاند الناصح
دا طابت زرعة العبيط واللي هافت زرعة الناصح
الفصل الثاني
‏RadioCairoPresents:AskAria‏
البرنامج الموسيقي‏..‏ منتصف ليل القاهرة
‏ThisistheEuropeservicefromradiocairo‏
ليست هلاوس ولا ضلالات سمعية مجرد اصداء لجمل إذاعية تناثرت ذات يوم عبر الأثير إنها فقط طبيعة أي عمل التي تلح علي رأس وأذن صاحبها مع وجود عطل فني بسيط‏,‏ فقد تداخل إرسال البرنامج الأوروبي المحلي مع إرسال البرنامج الموسيقي ثم دخول البرامج الموجهة علي كليهما‏.‏ يحتاج رأسي إلي مهندس الصوت النوبتجي ليشغل موسيقي الديسك الرتيبة إلي أن يأتوا بفني يصلح الخلل‏,‏ قد يصاب عقلي بملل خفيف مثلما يسئم مستمعو الإذاعة موسيقي الديسك‏,‏ مقدمة اغنية النهر الخالد‏,‏ بل جملة لحنية واحدة منها تعيد نفسها مرارا وتكرارا تكون جاهزة دائما في الماكينة الرئيسية‏,‏ فتدور حين تحدث فجوة بين برنامجين‏,‏ علي اعتبار أنها أخف وطأة علي إذن المستمع من الصمت التام‏,‏ أقسم أنه لو أتي لي الدكتور شامل بمهندس صوت لشخص حالتي فورا‏,‏ مجرد فجوة صوتية تلمؤها نغمات رتيبة في رأسي‏.‏ هيا اجتهدي يا اذني‏,‏ كما حرصت طوال عشرتنا معا علي إدخال كل ما هو مرغوب‏,‏ وغير مرغوب إلي عقلي‏,‏ وفككي التشابك بدلا من الرضوخ لاسطوانة الديسك المنومة‏.‏
‏RadioCairoPresents:AskAria‏ هذا هو الصوت الجريء ذو البحة الفاتنة لأمي آريا علي خلفية من موسيقي الصالصا في تيتر برنامجها الأسبوعي الشهير إسالوا آريا في البرنامج الأوروبي المحلي‏.‏ البرنامج الموسيقي‏...‏ منتصف ليل القاهرة ساعة من الموسيقي الخفيفة مع فيولا رفعت‏.‏ هذا هو صوتي الناعس الذي يتناسب علي حد قولهم ورومانسية الليل‏,‏ والذي يحملني أنا شخصيا علي التثاؤب حين اسمعني بالخطأ في برنامج مسجل‏,‏ كما إنه في الوقت نفسه قناعي الوادع الذي يخفي ضوضاء روحي تري ما هو قناع الصوت؟‏..........................‏ الصمت‏!‏
‏ThisistheEuropeservicefromradiocairo‏ وهذا هو صوت أختي تغريد بنبراته الواثقة التي تتبدل من شقاوة صبيانية إلي أنوثة مفتعلة إلي رصانة أصيلة وفقما يتراءي لها‏,‏ طبقا لطبيعة البرنامج الذي تقدمه في الإذاعة الإنجليزية الموجهة‏.‏ وهذا ما يحدث معنا جميعا فثلاثتنا أنا وأريا وتغريد نقدم برامج في الخدمات الثلاث الإذاعية السابقة لذا تلبكت النبرات وتشابكت الموجات‏.‏ لماذا يستكثرون علي أن أخفض مؤشر الصوت‏/‏ صوتي إلي الدرجة صفر؟ مجرد فجوة ساكتة مؤقتة حتي أصرفهم عني‏,‏ الدكتور شامل وجلساته الفردية‏,‏ وأسئلته المتعاقبة مثل وكيل النيابة ولعبه بنبراته حتي يصل إلي مقام الصبا الحزين ثم يناولني علبة مناديل كلينكس لإيحائي بأن دموعي علي وشك الانهمار‏,‏ وعادة ما تكون هذه هي الخطوة التي تسبق البوح‏,‏ وتارة أخري يتحفني بجلسات علاجه الجماعية التي اخرج منها بكل أوتاري متهرئة تماما‏,‏ فكيف لآلة حالمة مثلي لها صوت ناعم حنون أن تجلس متصلبة علي كرسي وسط جماعة من الشكائين بزعم التخلص من أوجاع الروح؟؟ تفزعني التجمعات الصاخبة‏,‏ يدي بيد أمي في أحد الموالد أو في زار وتغريد أختي في يدها الأخري‏,‏ أنظر عن يميني فأجد ماردا نصف عار يلتمع صدره بالعرق‏,‏ ويضع في فمه شعلتي نار‏.‏ أشهد عن يساري آخريشبهه في الهيئة إلا إنه ينبطح أرضا فوق لوح مستف بالمسامير ثم يهب واقفا في شموخ‏,‏ ويبدأ بالسير فوق قطعة من الزجاج المكسر‏,‏ أغلق عيني حتي لا أري خيوط الدماء‏,‏ وهي تتسرب من لحمه بعد أن نهشه الزجاج وأطراف المسامير إلا أنني أجده يرفع ذراعيه بزهو ويجمع نقودا في رق من الحاضرين‏,‏ تتقافز تغريد وتلمع عيناها بفرحة الفوز بعروسة حلاوة أو بضرب الشجيع للأوزان الحديدية وتصفيق الحاضرين ثم تلهث أنفاسها مع حركة المتمايلين يمينا ويسارا في حلقة الذكر‏,‏ بهجة الليلة الكبيرة التي تنعش أرواح الكبار قبل الصغار تحملني علي الانكماش والرغبة في البكاء والدخول في صدر أمي حتي لا أتوه بين كل هذه الأجساد والوجوه المتباينة الأشكال والألوان‏..‏ الليلة الكبيرة بكل زهوها وفرحتها تنتهي بمقطع حزين هو كل ما يتبقي لدي منها‏:‏
يا ولاد الحلاااااال‏...‏ بنت تايهة طوول كده
رجلها الشماااااال‏...‏ فيها خلخال زي ده
زحمة يا ولدااااااه‏.....‏ كام عيل تااااااااه
أتساءل دوما عن مصير البنت الصغيرة أم خلخال هل عثروا عليها أم ابتلعها المولد‏!!‏ لهذا لم أتفاعل وحلقات العلاج الجماعي التي أقحمني دكتور شامل النفير عليها‏,‏ نعم أراه نفيرا عالي الصوت يحمل الناس علي الصراخ‏,‏ في ليال شتوية قارسة‏,‏ علي فترات طفولية متباعدة‏,‏ كانت تصلني أصوات مضطربة وشهقات لنساء يهرولن علي سلم العمارة من خلف باب شقتنا‏,‏ ثم يرجع صدي الأصوات نفسها من المنور‏,‏ تنتقل الجارات فزعات من شققهن إلي شقة الدكتور شامل بالدور الرابع‏,‏ وتتسابق أياديهن علي رن جرسه والهبد علي بابه‏,‏ كنت ألمحه أحيانا‏,‏ وهو يخرج معهن بروب المنزل أو بيجامة وبشعر أهوش وعينين محمرتين ليكشف علي رجالهن أو أمهاتهن وآبائهم المستلقين في سكون علي الأسرة‏,‏ يجزم هامسا بأمر ما يعلو بعده الصراخ ويتصاعد مجلجلا في أنحاء العمارة‏,‏ وتعقبه دقات كعوب جنائزية بطيئة ممزوجة بأخري مهرولة ومصحوبة بأصوات ذكورية تنطق بالشهادة الأولي عدة مرات‏:‏ لا إله إلا الله‏...‏ لا إله إلا الله‏,‏ تعقبها نهنهات لأطفال وبكاء حار لمكلومات‏,‏ كل هذا كان يملؤني بالرهبة‏,‏ ويصور لي ما يحدث خلف باب الشقة علي أنه أهوال القيامة‏,‏ لم أكن أدري حينئذ هل دكتور شامل هو من أنهي حيواتهم أم إنه كان فقط بوقا لإعلان النهاية‏!‏ في كلا الحالين كان بالنسبة لي نائبا لعزرائيل‏,‏ وأغنية للموت‏,‏ فكيف لي بعد ذلك أن يغلق علينا باب في جلسة فضفضة أو حتي أوجد معه ضمن مكلومين آخرين‏,‏ ولو حتي من باب من يري بلاوي الناس تهون عليه بلوته‏.‏
إذا كانت الناس تخليني علي حالي
أنا أترك هوا الناس من بالي‏...‏ وأعيش خالي
منين أجيب ناس أشكيلهم علي حالي
أنا أوصيك يا مبتلي لم يقعد ف ريح خالي
أقعد ف ريح مبتلي زيك‏...‏ إن قلت آآآه
يقوللك‏:‏ كانت علي بالي‏...‏
الغريب أنني لم أتصور أن عالما في صلابته يمكن أن يستجب لإشارتي الضعيفة للمرضي بأنني أرغب في تناول الأقراص بدلا من الحقن‏.‏ أقراص من ستيلازين‏..‏ سيرينيس‏....‏ صافينيس‏...‏ هالدول‏....‏ بدلا من حقنة واحدة تأتي بهم شادية الممرضة‏.‏ تناولني ال هالدول في البداية أشير لها بأن تترك بقية الأقراص لأبتلعها بمفردي ترفض وتحدثني كمن تكلم طفلة‏:‏ ياللا يا رباب‏...‏ وللا يا فيولا‏..‏ هو أنتي اسمك إيه؟؟ لخبطتي الواحد‏!!.‏
أتجرعه في بطء علي أمل حدوث معجزة تنقذني من الاقراص الباقية الي أن ترتفع تدريجيا رنة محمولها الرخيص‏..‏ حبيبي وعنية لو في وسط ميه‏!‏ أداء ردئ وعزف بدائي لأغنية جميلة‏.‏ تحتضن المحمول وتلصقه بأذنها وتبدأ بالتحدث بنبرة خفيضة خنفاء وتبتعد عني فأتخلص فوريا من الستيلازين والسيرينيس والصاف‏..‏ ي‏..‏ ني‏..‏ س‏...‏
فيولا الغرام‏..‏ يا ملكة الآلات وسلطانة العواطف‏.‏ يا من لك أمزجة البشر‏.‏ تتكلمين بشعور العازف وتكشفين اسرار عواطفه‏.‏ يضعك علي صدره فتحملين علي أوتارك دقات قلبه‏.‏ ها هم يعتقلونك بين جدران أربعة في مصحة نفسية‏.‏ من سيخلصك سوي آلة تعرف مكانتك؟ بيانو مثلا‏.‏ هو الوحيد الذي ينافسك في السيادة لذا سيقدر قيمتك ويعرف ما بك‏.‏ هو الذي تأتي أصابعه الرشيقة بما تشتهين‏...‏ الهارموني‏!‏ دو‏..‏ ري‏..‏ مي‏..‏ ما‏..‏ را‏..‏ وان‏..‏ مروان؟‏!‏ هل يمكن أن تكون ذلك البيانو المخلص؟؟ يبدو أن القرص الوحيد الذي ابتلعته بدأ يعبث معي‏,‏ الممرضة شادية تتمايل في دلال وتضحك بصوت يختفي من أذني تدريجيا ثم تصير هي نفسها اثنتين‏...‏ ثلاثة‏...‏ لا شيء‏!!‏
اللي معاه فكر ينام به ويصحي به
الشمع يحرق ف نفسه وينور علي أصحابه
نام يا خالي نام‏..‏ وسيب الفكر لأصحابه‏..‏
‏....................................................................‏
الفصل الاول والثاني من رواية ستصدر قريبا للكاتبة بعنوان تانجو وموال
‏....................................................................‏
‏‏ صدر للكاتبة‏:‏
مجموعة قصصية أطياف ديسمبر الهيئة المصرية العامة للكتاب‏1998‏
رواية جدار أخير‏,‏ ميريت‏2001‏
مجموعة قصصية نقوش و ترانيم‏,‏ دار شرقيات‏2003‏
رواية مقعد أخير في قاعة إيوارت‏,‏ دار شرقيات‏2005‏
رواية سحر التركواز‏,‏ دار شرقيات‏2007‏
مجموعة قصصية مونتاج‏,‏ دار الدار‏2009‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.