أقض موقع ويكيليكس مضاجع عشرات الحكومات والحكام, وكشف عورات وفضح أكاذيب وجر المستور إلي العلن, فبات مطلوبا من مئات المسئولين والحكام والحكومات والأجهزة الذين يستهدفون إسكاته ويتمنون زواله. وبعد كر وفر لم تفلح الحكومات الغاضبة وأجهزتها العاتية إلا في اعتقال مؤسسه بعدما سلم نفسه لهم طوعا, لكن الموقع نفسه والمحتوي المذهل الذي يقدمه للناس والذي يعتبر الملك الحقيقي لكل هذه الضجة, لايزال سليما معافا لم يمس, متاحا لمن يريد في مشارق الأرض ومغاربها, بل ويزداد بالدرجة التي يحددها أصحابه وفي التوقيتات التي يريدونها, وأصبحت الدهشة ليست فقط مما يذيعه ويكشفه من أسرار, بل في قدرته علي الاستمرار وتحدي ومراوغة من أنشأوا الشبكة في الماضي ويديرونها فعليا في الحاضر.. فلماذا لم ينهر ويكيليكس أو يختف؟ المدخل إلي الإجابة عن هذا السؤال هو فهم الآلية التي تعمل بها الإنترنت نفسها, وتستفيد منها جميع مواقعها التي باتت تناهز السبعة ملايين موقع من بينها ويكيليكس, وهنا يمكن القول أنه لكي تعمل الإنترنت والمواقع المنشأة عليها, لابد أن يكون لكل حاسب متصل بها بطاقة هوية تعرف شخصيته وتحدد محل إقامته بدقة, وتكون هناك طريقة أو لغة متفق عليها, تستخدم عند إرسال أو استقبال الرسائل والبيانات بينه وبين الآخرين, ويستطيع أي حاسب أو شبكة فهمها والتعامل معها, وذلك سواء كان هذا الحاسب تابعا للمستخدم الفرد الذي يبحث عن المعلومة, أو حاسبا خادما محملا عليه موقع به معلومات وبيانات يقدمها لمستخدمي الشبكة. ولتلبية هذه المتطلبات تم إنشاء أربعة أنظمة رئيسية تعمل بها الإنترنت ككل علي النحو التالي: النظام الأول لتحديد الهوية يعرف باسم نظام تحديد العناوين الرقمية ومستخدمي الشبكة ويطلق عليهIPAddress, ويتكون من مجموعات من الأرقام المركبة مثل.127.12.91.28, يتم ترتيبها في مستويات مختلفة لتحدد علي نحو دقيق مكان الحاسب جغرافيا ووظيفته وهويته علي الشبكة, وعن طريق هذا الرقم الذي لا يتكرر يستطيع أي حاسب أن يتصل بأي حاسب آخر بلا مشكلات. لكن مستخدم الشبكة عادة ما يبحث عن عناوين أو أسماء مواقع ومقار معينة علي الشبكة وليس عن أرقام, فهو مثلا يبحث عن موقع جريده الأهرام بعنوانها المعروفwww.ahram.org.eg, ولا يبحث عن الاسم الرقمي للحاسب المخزن عليه الموقع بمبني الأهرام, لذلك كان لابد من وجود نظام ثان لتنظيم عمليه وضع أسماء المواقع والمقار المختلفة علي الشبكة, وكان لابد من وجود جهة تسجل هذه الأسماء بقواعد معينة ضمانا لعدم التكرار, ومن هنا نشأ النظام المعروف باسم نظام تحديد أسماء نطاقات عناوين المواقع علي الشبكةdomainnames, ثم آلية لترجمة عنوان النطاق إلي عنوان رقمي. أما النظام الثالث فيعرف ببروتوكولات الاتصال علي الشبكة أو اللغة التي تتحدث بها الحاسبات علي الشبكة, وهي مجموعة من التعليمات أو المفاهيم التي تساعد علي تبادل البيانات بين الحاسبات الإلكترونية المكونة للشبكة وتنظيم عمليات الاتصال وخطوط الربط. والنظام الرابع هو نظام الحاسبات الخادمة الجذرية أو الأمrootservers المسئول عن تحديد مواصفات الحاسبات المستخدمة في عملية تحويل أسماء المواقع إلي العناوين الرقمية, مثل نظم التشغيل وأنواع البرامج والتطبيقات المستخدمة علي هذه الحاسبات وغيرها. وقد قامت الأنظمة الأربعة منذ البداية علي مبدأ المرونة الكاملة في العمل وعدم وضع قيود أو عوائق بنيوية أو هيكلية تحول دون التنوع اللانهائي في آليات توظيفها واستخدامها, وتجسد ذلك عمليا في خاصية أو سمة أساسية في غاية الأهمية بالنسبة لأصحاب المواقع ومستخدميها معا, ألا وهي أنه بإمكان أي طرف شخص أو شركة أو مؤسسة أو دولة.. ألخ- أن يحصل علي أي عدد يريد من العناوين الرقمية المختلفة, ثم يربط هذه العناوين الرقمية بأي عدد مماثل من عناوين أسماء النطاقات شبه المتطابقة, أي التي تختلف فيما بينها فقط في حرف في الاسم, أو في الامتداد الأخير للنطاق مثل.org و.com و.eg وغيرها, ثم يقوم بربط كل عنوان رقمي واسم نطاق مرتبطين معا بأي موقع علي أي حاسب خادم يستضيف أو يخزن به الموقع التابع لهذا الشخص. بناء علي هذه الخاصية الأصيلة في الأنظمة الرئيسية لإدارة وتشغيل الإنترنت, أصبح من الممكن لأي جهة أو أي شخص أن ينشر ما لديه من معلومات وبيانات في عدد لا نهائي من المواقع التي تتوزع جغرافيا علي العالم أجمع, وتحمل عناوين شبه متطابقة, لكن جميعها يقدم نسخا متطابقة من المحتوي نفسه والبيانات نفسها والمعلومات بصورة متزامنة, بل أصبح بإمكانه أن ينشئ من الموقع الواحد أي عدد من النسخ التبادلية التي يحل أحدها محل الآخر إذا ما واجه المستخدم صعوبة في الوصول إلي أي منها. وبمرور الوقت بدأت تنشأ خدمات جديدة علي الإنترنت استنادا إلي هذه الخاصية, في مقدمتها ظهور شركات متخصصة في إخفاء هوية أصحاب المواقع ومديريها وجنسياتهم عند التقدم بطلبات تسجيل أسماء نطاقات المواقع أو عند تخصيص العناوين الرقمية الخاصة بها أو حتي عند حجز مساحات علي الحاسبات الخادمة, وقد انتشرت الشركات الموفرة لهذه الخدمة, وأصبحت تعمل وفق غطاء قانوني وتعاقدات يحظر عليها الكشف عن هوية من تقدم لهم خدماتها. وبالطبع فإن التوسع في استخدام هذه الخاصية والاستفادة بها يتطلب من الجهة صاحبة الموقع قدرا من االمهارة عند التشغيل, لأنه كلما زاد عدد المواقع التي تقدم المحتوي نفسه, وعدد العناوين الرقمية وعدد أسماء النطاقات المرتبطة بهذا المحتوي, أصبح لدي الجهة المالكة للمواقع والنسخ التابعة له ما يسمي بسلسلة الموردين, التي تضم شركات تسجيل المواقع وشركات الحاسبات الخادمة المضيفة للنسخ المتعددة من الموقع وشركات إخفاء الهوية, ثم يقع عليها عبء التنسيق فيما بينها وإدارة حركة المرور الواردة علي هذه المواقع وتوزيعها علي النسخ المختلفة وعلي المواقع التبادلية وغيرها. هنا نصل إلي النقطة الجوهرية, وهي أن هذه الخاصية هي سر بقاء ويكيليكس علي قيد الحياة وعدم انهياره أو اختفائه, ولكن السؤال هو: كيف استفاد ويكيليكس من هذه الخاصية؟ للتعرف علي ذلك قمت بمراجعة أوضاع الموقع علي الإنترنت لمدة ثلاث ساعات بدأت من العاشرة مساء الخميس الماضي9 ديسمبر وحتي الواحدة فجر الجمعة10 ديسمبر, وذلك من خلال خدمة سايب آييcybeye) التي تتيح رصد حالة أي موقع والمواقع التابعة له أو المتشابهة معه وتحديث هذه الحالة باستمرار, وقد قمت بتجميع وإعادة تصنيف البيانات الخاصة بهذه النطاقات وتلخيصها في الجداول المنشورة مع المقال, وفي ضوء ذلك أستطيع القول إن ويكيليكس ترجم هذه الخاصية إلي مجموعة من التكتيكات علي النحو التالي: 1 إمكانية الحصول علي عناوين رقمية متعددة ترجمها ويكيليكس في صورة13 عنوانا رقميا مختلفا مرتبطا منشوره في الجدول المرفق رقم'1' 2 إمكانية استخدام أسماء نطاقات شبه متطابقة حولها ويكيليكس إلي13 اسم نطاق متشابه, كانت جميعها قيد العمل والتشغيل الفعلي بلا مشكلات خلال فترة رصد الموقع وهاتان الخطوتان مفادهما أن من يرد إيقاف ويكيليكس فعليه أن يطارد مجموعة من الشركات موزعة علي14 دولة علي الأقل, وعليه أن يتخطي العقبات القانونية والتعقيدات السياسية وردود الفعل الجماهيرية علي هذا التدخل السافر في شئون شركات خاضعة لقوانينها الوطنية ولم تخالفها في شيء, وقد بدأت هذه المصاعب بالفعل حينما طلب وزير الصناعة الفرنسي إيقاف جميع الحاسبات الخادمة ذات العلاقة بويكيليكس في فرنسا, فصدر حكم قضائي من محكمة مدينة ليل الفرنسية لصالح الشركة المضيفة لأحد خوادم ويكيليكس يقضي بأنه ليس من حق أي جهة إجبار الشركة علي إيقاف الحاسب الخادم. 3 إمكانية تشغيل مواقع تبادلية ترجمها ويكيليكس إلي خمسة مواقع كانت قيد التشغيل فعليا أثناء فترة الرصد, وإن كان تقرير لل'بي بي سي', قد تحدث عن وجود500 موقع تبادلي لدي ويكيليكس موزعة حول العالم. 4 إمكانية التسجيل عبر طرف ثالث يخفي الهوية عند تسجيل نطاقات الأسماء والعناوين الرقمية استخدمها ويكيليكس بصورة شرعية وقانونية علي الأقل في كل من الولاياتالمتحدةوفرنساوالسويد, ولم تستطع لا السلطات ولا شركات تسجيل نطاقات الأسماء فعل شيء حيال هذا الأمر, حتي أن شركتي شركة'EveryDNS' في أمريكا و'ovh' في فرنسا اللتين تستضيفان, وتسجلان اثنين من نطاقات أسماء ويكيليكس اعترفتا بأنهما في وضع أصابهما بالارتباك, لأنهما لا تعملان علي وجه اليقين من يملك نطاقات الأسماء المسجلة لديهما باسم ويكيليكس, لأنهما مسجلان عبر طرف ثالث له حق إخفاء شخصية المالك الحقيقي. في ضوء هذه الأرقام والملابسات يمكن القول إن ويكيليكس وصل بالفعل إلي مرحلة امتلاك ثلاثة عناصر للقوة وهي: سلسلة موردين للأسماء والأرقام والحاسبات الخادمة وخدمات إخفاء الهوية منتشرة وموزعة حول العالم. شبكة مواقع متداخلة معقدة عبر الإنترنت, وموزعة علي مناطق مختلفة من العالم أيضا. مهارات عالية في تشغيل وتفعيل السلسلة والشبكة معا والمناورة بهما في أي لحظة, وجعلهما تعملان معا بصورة متناغمة وسلسة ومؤثرة وناجحة. واجتماع هذه العناصر الثلاثة لدي ويكيليكس حقق الهدف النهائي, وهو ضمان وجوده وإتاحته طوال الوقت وتسهل الوصول إليه عبر طرق ومسالك ودروب قابلة للتوالد والتكرار بلا انقطاع, ولذلك حينما قطعت شركةEveryDNS), التي توفر خدمة ترجمة عنوان اسم النطاق الذي يعمل به ويكيليكس في أمريكا هز لها ويكيليكس كتفيه ولم يطرف له جفن, وبعد دقائق كان يعمل من اسم نطاق جديد في سويسرها هوwikileaks.ch الذي يحيل من يحاول الوصول إليه إلي عنوان رقمي مسجل في السويد, ثم إلي حاسب خادم موجود في فرنسا. والخلاصة أن استمرار ويكيليكس وعدم انهياره أو اختفائه ليس بمعجزة, بل هو حالة ناجحة لاستخدام الإنترنت وإمكاناتها من أجل البقاء علي قيد الحياة في الفضاء الإلكتروني.