* سيدي, لن أطيل عليك في سرد قصة حياتي أو مشاكلها فكل إنسان بداخله الكثير, ولكن باختصار وإيجاز شديد انفصلت عن أبو أولادي الاثنين وتركتهما كنصيحة أمي الجميلة. سيبيهم لأبوهم يشيل مسئوليتهم واكتفيت برؤيتهما كل نهاية أسبوع لنقضيه معا, وتفرغت لأناطح في الدنيا من أجل مستقبلهما . فبعد أن كنت مدرسة براتب200 جنيه, سعيت وتدرجت في حياتي العملية برضا من الله عز وجل, الي أن وصلت لأعلي المناصب وأعلي راتب كنت آمله من ربي سبحانه وتعالي, وكان رجائي الوحيد دائما من الله( الستر ورزقي وأولادي بالحلال يارب) ليغنيني عن السؤال ولا أكون أبدا عبئا علي أحد, ولا أنكر فضل أسرتي الصغيرة علي, من أب حنون وزوجته الفاضلة وأمي نبع الحب وزوجها الرائع وأخوتي جميعا وأحمده كثيرا علي ما أعطاني ما أنا عليه. ظل هدفي الأول والأخير أولادي لبعدهم عني وحرمانهم مني وحرماني منهم, بالرغم من زواجي مرة أخري ونعمة ربي علي بابني الثالث, فثلاثتهم قرة عيني. لن أتطرق إلي حجم معاناتي في حياتي بعد انفصال أبي وأمي, أو حتي بعد انفصالي أنا شخصيا عن أبيهم وتكرار ما كنت أبدا لا أتمناه... لأني قررت أن آخذ بالأسباب وجعلت ظروفي هذه, تدفعني للأمام ولم أرد ككثير من الناس ومنهم أولادي شخصيا, جعل هذه الظروف هي الشماعة لتعليق سلبيات حياتي عليها, بل جعلتها منبع قوة وتحد وإصرار علي النجاح, فتحديت جميع الظروف لأوجه حياتي حيثما أريد, موفقة دائما بعطف ربي علي. أما رسالتي هذه فهي من أم مفجوعة لجميع الشباب والشابات في سن المراهقة, فما يفعلونه بآبائهم وأمهاتهم قاس جدا ولا يتحمله بشر. لدرجة أني كأم تمنيت من عميق قلبي ألا يكبر أولادي أبدا ويظلوا أطفالا الي يوم مماتي... فالشباب للأسف سرقاهم الدنيا, وعالمهم الحالي يساعدهم أكثر, علي اللهو والضياع بالأفلام الإباحية والأغاني الخليعة والألفاظ النابية, والعجيب أننا كشعب وأسر, لا نعترض ابدا علي كل هذا, من أغان وأفلام وفساد وانحراف سائد حولنا وحول ابنائنا... فلطفا بنا وبشبابنا فلذات أكبادنا وجيل المستقبل, وصبرا أولادنا رحمة بناوبالوالدين إحسانا. عزمني أولادي لرؤية فيلم( أوقات فراغ) وكان عامل ضجة مع الشباب وقت نزوله, ذهبت معهم أصادقهم وأتوغل في عالمهم, ويا ويل ما رأيت فظللت طوال عرض الفيلم أبكي وهما يضحكان ويقولان لي: يا ماما ده تمثيل فأخذته عبرة أمثل بها لهم: يا عيني علي أهل الولد ده, شوفوا دفع حياته تمن طيشه هو وأصحابه, ياريتكم تتعلموا ومتفكروش تعملوا زيهم وظللت أدعو يحفظكم وأمثالكم ربي يا أرحم الراحمين. كبر ابني الأكبر وهو أصلا( ابن موت) فلم أذكر لك أننا اكتشفنا وأبوه, عيبا خلقيا بقلبه وعمره فقط28 يوما, وقال لنا الطبيب المشهور( الله يسامحه): مش حيعيش أكتر من سنتين... وتمر الأيام والسنون, سنتين, تلاتة, خمسة, عشرة, خمستاشر, تسعتاشر.... يااااااالله يمر كل عام ولا أصدق نفسي, وأحمدك يارب علي نعمتك علي, فلم يأخذ ابني قرصا واحدا كعلاج للقلب, سبحانك يا ربي... عاش ابني لهذه السن وثقتي في ربنا طوال عمره تفوق ثقتي بالطب أضعاف أضعاف. وكنت أتعامل معه كمن يملك بيتا زجاجيا, فيحاوط عليه بأحضانه, حتي كنا عندما نعود بطلبات البيت أحمل وأخواته أكبر من طاقاتنا ولا نجعله يحمل سوي كيس الخبز أو كرتونة البيض, فيتذمر أخوه: ياماما!!!!! أغمزه أخوك تعبان وميتحملش وكنت دايما أوعيه لظروفه وأطلب منه مثلا صعود الدرج مع قسط من الراحة بين كل دور... حافظ علي نفسك يا حبيبي, أوعي تشرب سجاير تتعبلك قلبك. ويكبر ابني, وياليته ما كبر كان مثل الشباب في اندفاعه لسباق الزمن وتجربة كل شيء قبل أوانه. ومع انسياق الشباب, تعلم ابني التدخين وقيادة السيارات, وكان يريد التهام الحياة عايز أسافر برة, عايز أفتح نت كافيه, عايز عربية.. عايز, عايز وأبدا لا يستمع لي: ماتقلش عايز دلوقت, بس تذاكر وتخلص شهادتك وبعدين اللي أنت عايزه اعمله. واحدة واحدة ياحبيبي بتجري ليه؟؟ استخرجت له البطاقة, وكذلك رخصة السواقة بعد السن المسموحة وبالحاح منه( وكان بالفعل بيسوق بقاله سنة). أخذه اصحابه مني, فلم أشبع من فترة شبابه فكل إجازة( تعال ياحبيبي عملتلك ورق العنب والرقاق اللي بتحبه.. معلش ياماما أصلي خارج مع أصحابي.. اصحابك أهم عندك من أمك.. لا ياحبيبتي حاخلص وأرجع عليكي) وابدا ما شبعتش منه وأقول معلهش سن الشباب الله يحرسهم. إلي أن جاء يوم يطلب مني سيارة قديمة خاصة أنها مهملة ومركونة وحاول بكل جهد اقناعي يأخذها ويهتم بها, وطبعا رفضت حتي تشاجرنا سويا لدرجة زعله مني.. يومها لم أستطع النوم وجدته جالسا في البلكونة حزينا فأخذته في حضني: ياحبيبي أنا أمك وأدري بمصلحتك وباخاف عليك, نفسي تفهم انه مافيش أحن عليك في الكون أكتر من ربك وبعده أمك.. نفسي تكبر وأحس أن عندي راجل اعتمد عليه ويسندني في دنيتي, أبوس ايديك ياحبيبي أوعدني تغير من نفسك واهتماماتك شويه عشان خاطر أمك.. أوعدك يا أمي, أخذته في حضني, ولم أدرك أنها المرة الأخيرة التي أشعر فيها بحضنه فبعدها بيومين فقط أبلغني ولداي باتفاقهما للذهاب إلي العين السخنة مع أصدقائهما لقضاء رأس السنة في العين السخنة, وافقت وكان تصوري مثل أكتر من مرة أنهم يذهبون بالميكروباص وبعون الله بيرجعوا بالسلامة وبأتابعهم بالتليفون.. فوجئت باتصال تليفوني9 صباحا مين حضرتك؟.. معلهش تمالكي نفسك وياريت تجيلنا بعد بوابات الكارتة الولاد عملوا حادثة صغيرة.. ازاي وفين أديني أكلم حد منهم الله يخليك, جريت ولا أدري كيف ساقتني قدماي للقيادة ومن دموعي لا أري الطريق وسرعتي تعدت160 كم, وفقط دعائي: اللهم اني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه يارب, سترك وعفوك ورضاك ياأرحم الراحمين وفجأة طلبت ابني الأوسط وأبدا لا يرد, فأجدني اتصل بأخيه الأكبر رد يابني, رد عليا, ليه مبتردش؟ أوعي تكون مت ياحبيب أمك, أوعي تكون مت. وفجأة أجدهم, زحام علي الطريق, سيارات الشرطة والاسعاف وكلي أمل يكون الأمر بسيطا, فأقف واندفع من السيارة ليمسكني أحد الضباط: البقاء لله شدي حيلك.. لأ لأ, مين قالك انه ابني؟ هو فين؟ ومين فيهم؟ انت تعرفه؟ أكيد متعرفهوش؟ طب فين أخوه؟ أرجوك الله يخليك ولادي فين؟ أبوس ايدك.. ولا أري سوي سيارة ملعونة محطمة تماما وكلها دماء ابني وحذاؤه, أدركت انه القائد.. ليه.. ليه كده ياأبني حرام عليك, أنت وعدتني. وسريعا جاء يوم الانتظار, بعد كل حرصنا عليك.. ارادتك يارب اللهم لا اعتراض, اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها واسترجعت يوم السينما, كيف كان بكائي وهو مش ابني وكأني أشعر بقدوم هذا اليوم وأخافه.. احتسابي عند الله, مؤمنين جميعا بقضاء الله وقدره, وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم, لكن لابد من وقفة للجميع الكل مطالب بالمساعدة للحفاظ علي أولادنا, فلذات أكبادنا.. الشعب بأكمله, جميع الوزارات: الداخلية, والشباب والرياضة, وزارة الثقافة.., نعم, أحمل جميع هؤلاء المشاركة في قتل ابني, زهرة قلبي.. نعم الكل والجميع مسئول معي علي الحفاظ علي شبابنا, فكيف لصاحب مكتب ايجار السيارات أن يتجرد من أبوته ويقدم علي ايجار سيارة لشاب في مثل هذا العمر بل ويجعله يوقع علي شيك علي بياض, لماذا؟ لكسب ملاليم.. تخسرني عمر ابني, وأين الرقابة علي مثل هذه المكاتب المتجردة من المسئولية, أين الداخلية؟ والافلام والأغاني اللي بيقلدها ابناؤنا, أين وزارة الثقافة؟ أين الشباب والرياضة؟؟ بحق لا إله إلا الله أنقذوا ابناءنا! {{ سيدتي.. خالص عزائي لك ولأسرتك في فقيدك الشاب, والحمد لله اني أتلمس في كلماتك الصبر والرضا بقضاء الله لاني أعرف جيدا إحساس الأم الثكلي عندما يختطف الموت شابها وهو في سنوات التوهج والعطاء. سيدتي.. لست في حاجة مني إلي تذكيرك وأنا أشاركك حزنك أن ابنك وهو نطفة في رحمك مقدر له يوم وفاته, وعلي الرغم من تشخيص الأطباء لحالته منذ طفولته بأنه لن يعيش أكثر من عامين, ولكنه بإرادة الله وقدره عاش وسعدت به إلي اليوم الذي ذهب فيه إلي حيث ينتظره قدره في موعده بالدقيقة والثانية, مخلفا في القلب حسرة ودموعا لن تتوقف. طبعا لا يعني الايمان بالقدر والمقدر أن نذهب بأنفسنا إلي التهلكة, فما فعله ابنك الراحل, يفعله كثير من الشباب في شوارعنا, يطيرون بسياراتهم في شوارعنا المزدحمة, غير الممهدة, معرضين حياتهم وحياة الآخرين للخطر, أراهم وأتساءل مع نفسي كلما رأيت مثل هذا المشهد: لماذا يهرول الشباب بهذه الفوضي إلي الموت؟.. ألا يخشونه, ألا يفكرون في أنهم سيسألون أمام الله عن عمرهم الذي أفنوه بأيديهم في العبث والتهور؟ ألا يشعرون بحجم الألم الذي يخلفونه سواء كانوا ضحايا أم جناة؟ لا أعرف ولا أفهم أي سعادة تلك التي تنتابهم وهم يلامسون الموت في كل لحظة, أو يثيرون الفزع في نفوس المارة, وأري وأسمع ضحكاتهم الصاخبة. سيدتي.. لا أستطيع تجاهل وتأثير انفصال الوالدين علي الأبناء ولا أريد أن أزيد آلامك, ولكن دعينا نتفق علي أن المسئولية تبدأ من الداخل, من البيت, الأب والأم هما اللذان يغرسان منذ الطفولة الاحساس بالمسئولية, وربما الاهتمام المبالغ فيه والمبرر بإبنك الراحل وحصاره خوفا علي حياته, واحد من الأسباب التي كانت تدفعه للبحث عن حريته بتهور واندفاع, لذا قد تكون فرصة للفت انتباه الآباء والأمهات ولمن كان يعامل ابنه أيا كانت الأسباب بخوف وحرص مبالغ, أن يلجأ إلي طبيب نفسي أو أساتذة علم نفس ليعرف الاسلوب المناسب للتعامل مع مثل هؤلاء الأطفال منذ الصغر. كل هذا طبعا لا ينفي القصور الواضح في الرسالة الاعلامية والثقافية وعجزها عن مخاطبة الشباب والوصول إليهم, ولا ينفي أيضا أخطاء القائمين علي تطبيق القانون بصرامة علي المتهورين من قائدي السيارات والتدقيق في إصدار رخص القيادة والمراقبة والمحاسبة الدقيقة لمكاتب تأجير السيارات. سيدتي.. كما قلت كلنا جناة. ولن يكون هناك حل فردي, بل علينا جميعا أن نتكاتف ونعمل معا, من أجل أبنائنا. حبات قلوبنا, مستقبل مصر. لفقيدك الرحمة والجنات العلي, ولك ولأسرتك الكريمة الصبر والعزاء, وإلي لقاء بإذن الله.