استوفي برلماني الاجيال كمال الشاذلي الاستاذ حياته المجيدة في هذه الدنيا قبل ايام مضت, وقد عاش لمصر وللعروبة وللسياسة والحياة النيابية, ولكنها حياته الي ما اناف في عدد السنين علي السبعين كانت حياة خصبة, وليست كحياة غيره من الذين يطوون الأعوام تلو الأعوام, ولاينتجون شيئا, ولايقومون بعمل نافع لامتهم وبلادهم, ولايشغلون الناس بنبوغهم في عمل من الاعمال, ولايخدمون الحياة النيابية والإنسانية خدمة باقية تضاف إلي خدمات النوابغ الذين شادوا للعمل الوطني, بناء عظيم الشأن متين البيان. لم يكن الرجل فردا في أمة, ولكنه كان رجل أمة, وصاحب مبادئ عاش لها زمنا سعيدا, واداها لأمته وبلاده احسن الاداء. ولقد رأي الشعب المصري له كيف بدأت حياته النيابية في الثلاثين من عمره وكيف تعلم, وكيف جاهد في العمل السياسي وكيف عمل طويلا لنهضة الجيل منذ منتصف القرن العشرين حتي دعي بحق برلماني الجيل وبقي هذا اللقب وقفا عليه طول حياته لاينازعه فيه منازع, لانه من اوائل من بشروا بالمبادئ الديمقراطية بعد الثورة, ومن اوائل من وجهوا الشبابية المصرية الي معاني الحرية والاستقلال, واسس مدرسة فكرية برلمانية جديدة تخرج فيها شبان جيل اكتوبر الذين اصبح منهم اساتذة نوابغ لجيلنا المعاصر نهضوا بالحياة السياسية وأحدثوا في مجتمعنا العربي ثورة سياسية وفكرية. وقد كانت مبادئ كمال الشاذلي في السياسة والعمل البرلماني هي اهم الدعائم الكبري التي قامت عليها نهضة مجلس الشعب في الثلاثين عاما الماضية, وعضضت نهضات الامم الراقية التي تعرف حقها في الحياة وحقها في الحرية والكرامة, والتي ظفرت بشخصية قوية لاتعمد علي غيرها, ولكنها تنبع من صفاتها ومقوماتها وتصدر عن اهدافها الحرة المستقلة, وتجعل لها مكانة محترمة في الميدان السياسي المحلي والعالمي. وفي السياسة كان يدعو الي ان تكون مصر للمصريين لاتكون داخله ضمن جماعة, وذلك لان الناس بطبيعتهم احرار, ولكن حريتهم عطلت في مراحل من تاريخنا الحديث وهذا لاستبداد حاكم او لسيطرة متسلط عليهم يكبت انفاسهم, لان الحرية الملازمة للانسان لاتسمي حرية الا اذا كان ميسرا له استعمالها في فكره وقلمه ولسانه وكل شأن من شئون حياته في حدود القوانين, والحرية الناقصة حياة ناقصة, وفقدان الحرية عنده هو الموت. وتعلمت منه انا وكثيرون معاني الديمقراطية, ومعاني الحكم الديمقراطي, وكيفية محاربة الحكم الشخصي والحكم القائم علي المنافع الشخصية, الي جانب معاني سلطة التشريع وحرية الصحافة وحرية الخطابة وحرية الاجتماع. هذا بالاضافة الي ما قدمه من دروس في تقوية الوحدة القومية بين المسلمين والاقباط بتوحيد عنصري الامة حتي لايجد المختالون ثغرة سياسية ينفذون منها الي استغلال الخلاف بين العنصرين لمصلحتهم, وتحطيم اليقظة الوطنية. ولا انسي مواقفه في تقوية الشخصية الوطنية والنظر في الامور السياسية من وجهة المصلحة القومية وحدها ومصلحة ابناء البلاد. وقد عني كل العناية بتدعيم الكرامة الشخصية والوطنية علي مستوي الحوار بين الاغلبية والمعارضة في توجيهها لما فيه صالح الوطن علي المستوي المحلي والإقليمي في الاتفاقات الدولية اسفل قبة البرلمان, مما جعله علي حق صاحب لقب زعيم الاغلبية بمجلس الشعب. وفي النهاية اذكر للرجل نبل اخلاقه وعفة لسانه ودروسه في مبادئ الفرسان, لانه كان يري ان من انتقل الي جوار ربه لايجمل ان ننتقده او نذكره بسوء, وانه من الاحترام للاموات ألا يقدم هو علي قوله ما دام حيا, ولانني قد استوعبت الدرس جيدا وقد توفي الرجل الي رحمة الله فإني دونت للتاريخ جانبا عن الغائب الحاضر كمال الشاذلي الاستاذ.