هناك تيار عام إقليمي ومحلي يؤكد علي أفول تيار يتحدي الدولة العربية المدنية الحديثة, وهناك أيضا في المقابل نخبة في الحزب الوطني الديمقراطي عرفت كيف تتعلم من دروس الماضي لا أدري هل كان الأمر من قبيل الصدفة وحركة الأقدار, أم كان فيه بعض من الدروس والعبر التي تتعلمها المجتمعات من وقت لآخر. وعندما قيل إن سمكة القرش راحت تهدد البشر علي سواحل مدينة شرم الشيخ استرجع جيل بأكمله تلك الصورة التاريخية لفيلم شهير عرف باسم الفك المفترسJAWS عندما هددت سمكة من أسماك القرش قرية سياحية آمنة وتمضي الأحداث لكي يتم اصطيادها بعد أحداث جسيمة اختلط فيها الخطر بالمهارة حتي حازت القرية علي الأمن والأمان. وقبل أن تظهر سمكة أخري مفترسة في نفس المدينة, وربما كانت الصدفة وحدها هي التي واكبت اصطياد سمكة القرش بعد أن أصابت حفنة من ضيوف مصر مع ظهور نتائج الجولة الأولي للانتخابات التشريعية وفشل جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في الحصول علي مقعد واحد مما ترتب عليه انسحابها من المعركة الانتخابية كلها. الطريف في الأمر أن المرشد العام للجماعة المحظورة أعلن بعد هذه النتائج أن جماعته انسحبت بعد أن حققت أهدافها كلها; وهي المرة الأولي في تاريخ الانتخابات التشريعية في بلد ما يكون هدف الحركة السياسية إحراج النظام القائم. ومصدر العجب هنا أن الجماعة دخلت في هذه الانتخابات مرارا, وحازت علي ثمانية مقاعد بالاشتراك مع حزب الوفد في عام1984, ثم حصلت علي أربعين مقعدا بالاشتراك مع حزب العمل عام1987, كما حصلت علي17 مقعدا في عام2000, وأخيرا علي88 مقعدا في عام2005 ولكن في انتخابات2010, حتي الجولة الثانية, لم تحصل الجماعة علي مقعد واحد, ولم يحدث ذلك من قبيل المصادفة وإنما نتيجة قدرات تنظيمية وفكرية نجح من خلالها الحزب الوطني الديمقراطي في محاصرة الجماعة ومنافستها في الإنفاق والتنظيم والفكر السياسي الذي تتبناه الجماهير. والحقيقة أنه لا يوجد سبب واحد يمكن الأخذ به لتفسير حالة الخروج لكتلة الإخوان المسلمين خالية الوفاض دون مقعد واحد في الجولة الأولي للانتخابات البرلمانية المصرية. ومن هنا, يمكن القول إن هناك تفسيرات عدة للتراجع الإخواني, بعضها يتعلق بالوضع العام لأنظمة الحكم الإسلامية السابقة أو التيارات الإسلامية الحالية في حين يتعلق بعضها الآخر بالشأن الخاص لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. إن النتائج العملية للأنظمة السياسية ذات التوجهات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط كارثية, وهو ما تبرهن عليه حالات إيران والسودان والصومال وأفغانستان وباكستان, حيث سيطر الفقر المدقع والتراجع الاقتصادي والفساد في توزيع الثروات والتضييق علي الحريات العامة, بل نشطت الدعوات الانفصالية عن الدولة الوطنية. ولم نجد دولا إسلامية خرجت من سياق الأزمات الدورية سوي تركيا وماليزيا, فضلا عن استثناءات محدودة في المغرب وإندونيسيا, حيث شهدتا أحزابا سياسية إسلامية دينية سارت علي طريق الأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول أوروبا الغربية التي جعلت الدين مرجعية أخلاقية تعزز ولا تقوض قدرة الدولة الحديثة. ويظهر تأثير النوازع الأصولية الإسلامية يوما بعد آخر في اليمن ولبنان والعراق ويضع هذه البلدان في خطر عظيم. ونتيجة ذلك تراجع وجود الإسلاميين في المنطقة, وبرز في حالات بلاد عديدة منها الكويت والبحرين والمغرب والأردن وفلسطين. وكان ذلك نتيجة أن الإسلاميين في الدول العربية يطلقون موجات متلاحقة من العداء لحرية الرأي والتعبير, من خلال الدعوة المستمرة لمصادرة الكتب التي تطرح اجتهادات دينية والوصاية علي الأفكار وتقييد حرية الإبداع والعداء للفن والثقافة. وكانت النتيجة تراجع الإسلاميين السنة في الانتخابات التشريعية التي شهدتها الكويت في مايو2009 بل تلقي صفعة قوية من الناخبين. فقد تراجع نصيبهم من21 مقعدا في البرلمان السابق إلي11 في البرلمان الحالي, حيث فاز التجمع السلفي الإسلامي بمقعدين مقابل أربعة مقاعد كان يسيطر عليها في البرلمان السابق بينما فازت الحركة الدستورية الإسلامية بمقعد واحد مقارنة بثلاثة مقاعد, وفاز مرشحو القبائل بخمسة وعشرين مقعدا, فضلا عن نجاح ما يسمي ب التيار المدني, سواء من المستقلين أو الليبراليين أو النساء. وبالنسبة للانتخابات البرلمانية التي شهدتها البحرين في أكتوبر الماضي, فقد أشارت نتائجها إلي استحواذ التيار الإسلامي الشيعي ممثلا في جمعية الوفاق علي18 مقعدا, ويليهم المستقلون المقربون من الحكومة وتقلص نفوذ الإسلاميين, فبعد أن كان النواب الإسلاميون, من جمعية المنبر الإسلامي والأصالة يشغلون15 مقعدا من مقاعد المجلس النيابي في البحرين خلال الفترة(2006-2010), لم تتمكن الجمعيتان من المحافظة علي مكاسبهما السابقة, واكتفوا بسبعة مقاعد فقط. وفي الانتخابات الخاصة بالمجالس البلدية التي شهدتها المغرب في يونيو2009, تراجعت مرتبة حزب العدالة والتنمية إلي مكانة متأخرة. فقد حصل حزب الأصالة والمعاصرة( المعارضة), علي4854 مقعدا متبوعا بحزب الاستقلال المشارك في الحكومة, الذي حصل علي4246 مقعدا, وحزب التجمع الوطني للأحرار المشارك أيضا في الحكومة وحصل علي3318 مقعدا, والحركة الشعبية( المعارضة), الذي حصل علي1767 مقعدا, والاتحاد الاشتراكي للقوي الشعبية المشارك في الحكومة وحصل علي2534 مقعدا. أما حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض المعتدل فجاء في المركز السادس بحصوله علي1135 مقعدا. وفي الانتخابات الأردنية التي جرت في نوفمبر الماضي, قرر حزب جبهة العمل الإسلامي وهو الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين تفضيل خيار المقاطعة بدلا من التعرض لهزيمة قاسية. وفي الحالة الفلسطينية سبق أن أخفقت تجربة حركة حماس في الحكم منذ انتخابها في25 يناير2006, رغم حصولها علي76 مقعدا بنسبة57.6% من إجمالي عدد مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني حتي إنها لم تعد علي استعداد لخوض انتخابات أخري وأكثر من ذلك قامت بفصل قطاع غزة عن بقية فلسطين. إن أحد التفسيرات المطروحة لتراجع التيارات الإسلامية تحت قبة البرلمانات العربية هو عدم قدرتها علي ترجمة البرامج والسياسات التي تطرحها إلي سياسات عملية مرتبطة بما يحدث علي أرض الواقع, وتكون النتيجة رسوبها في امتحان ما يسمي ب شرعية الإنجاز. ومن هنا, فإن الهوية الإسلامية للتيارات السياسية لا توفر حصانة مطلقة من المحاسبة الشعبية. وفي الحالة المصرية, لم يكن لتنظيم الإخوان أجندة واضحة وفشل في التأثير علي الأجندة التشريعية والرقابية لمجلس الشعب المصري برغم وجوده تحت قبته منذ خمس سنوات, وهو ما يمكن قياسه بشكل علمي من خلال مؤشرات محددة مثل الاستجوابات وطلبات الإحاطة والمقترحات والأسئلة والبيانات العاجلة وغيرها. فعلي الرغم من أنهم من الناحية العددية مثلوا أكبر كتلة معارضة في برلمان2005 بحصولهم علي88 مقعدا, وهو ما يعادل20% من مقاعد البرلمان, إلا أن تأثيرهم كان ضعيفا وغير ملموس في القضية الحيوية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إضافة إلي ذلك, عانت الجماعة من الارتباك في برامجها وعدم القدرة علي حسم إشكالية أساسية متعلقة بطبيعة العلاقة بين الدين والدولة في مصر, والخلط بين ما هو دعوي وأخلاقي وما هو سياسي, وتقديم المصلحة الخاصة لهم كفصيل سياسي علي المصلحة العامة للوطن. هذا بخلاف الخلافات الحادة بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي علي مدي الشهور الماضية, التي انتصر فيها التيار الأول وبرز فيها الملمح الانشقاقي الذي تعاني منه غالبية الأحزاب السياسية. إن الخصم الذي واجهه الإخوان المسلمون في المعركة الانتخابية التنافسية كان حزبا وطنيا ديمقراطيا مختلفا عما اعتاد عليه من قبل. وإذا كان الاتجاه الشائع في وسائل الإعلام هو أن أكثر أمانات الحزب نشاطا وتأثيرا هي أمانة السياسات إلا أن هناك أمانة لا تقل عنها فعالية وهي أمانة التنظيم التي أدارت كافة الجوانب التنظيمية للحزب بما في ذلك الإشراف علي الوحدات الحزبية وعلي لجان وهيئات مكاتب الأقسام والمراكز والمحافظات ومتابعة أدائها لمهامها والتزامها بالانضباط الحزبي, وتولت وضع قاعدة بيانات للقيادات التنظيمية وخطط تصعيد تلك القيادات. وتقوم أمانة التنظيم بالإشراف اليومي علي أداء أمناء المحافظات وعمل اللجنة البرلمانية والتنسيق بين الأمانة العامة والهيئة البرلمانية للحزب والإشراف علي تنفيذ أساليب العمل الخاصة باختيار مرشحي الحزب لخوض انتخابات مجلس الشعب والأساليب الخاصة باختيار أعضاء لجان وهيئات مكاتب الحزب حتي مستوي المحافظة. واللافت للنظر أن أمانة التنظيم يغلب علي العاملين بها العنصر الشبابي الذي يتمتع بمؤهلات تعليمية ومهارات تكنولوجية, تجعله قادرا علي التعبئة والحشد والتنظيم والتنسيق والتخطيط لفعاليات العملية الانتخابية بشكل منهجي ومنظم, بخلاف توافر العوامل المادية التي لم يبخل بها أعضاء الحزب إلي درجة باتت تنافس الموارد المادية للجماعة. هذه الأمانة, بالإضافة إلي جهد الأمانات الأخري في مجال السياسات والإعلام والتنمية الاقتصادية قامت بدراسة دقيقة للدوائر التي سقط فيها رموز الحزب عام2005 ومرشحوه, أدت إلي اختيار مرشحين جدد يتمتعون بشعبية كبيرة ومصداقية عالية واللجوء لآلية المجمع الانتخابي لتصفية المرشحين والرجوع إلي الشعب كفيصل في الحكم إذا كان هناك أكثر من مرشح. وكانت الشبكة التي نجح بها الحزب في اصطياد أسماك القرش الإخوانية هي الدراسة النافذة لكل دائرة علي حدة, ومن ثم فإن الترشيح المتعدد للحزب الوطني في دوائر عدة لم يكن اعتباطيا وإنما كان لامتصاص التأييد في المناطق المضادة للحزب وليس لتفتيت أصواته كما ظنت فضائيات عدة. لقد كان هناك تيار عام إقليمي ومحلي يؤكد أفول تيار يتحدي الدولة العربية المدنية الحديثة; ولكن كان هناك أيضا في المقابل نخبة في الحزب الوطني الديمقراطي عرفت كيف تتعلم من دروس الماضي, والأهم كيف تستخدم أساليب وأدوات الحداثة والمعاصرة لكي تفوز في المعركة الانتخابية.