لم يلتفت أحد في حياتنا الثقافية الي ان هذا العام الذي انقضي أكثره, ولم يبق منه غير أيام قليلة يوافق الذكري المئوية لميلاد رائد الأدب الشعبي في مصر, الدكتور عبدالحميد يونس(1910 1988) . الذي قدم للمكتبة العربية العديد من الدراسات والترجمات الأدبية الخاصة بالتراث العربي والعالمي في هذه الأعمال تتكشف للقراء الرموز والمعاني والدلالات الإنسانية الجمة التي يحفل بها هذا التراث كما يحفل بالقيم الفنية والفكرية المبدعة التي تتجلي في التغني بالعواطف والأمجاد بالحب والحرب, في البر والبحر, وفي الريف والحضر, سواء اعتمد في بنائه علي تنوع وتداخل القصص ذات المحور الواحد كما في ألف ليلة وليلة أو اعتمد علي السرد الروائي كحلقات متتالية, يتابعها المتلقي في ليالي السمر كما يتابع قصاص الأثر. انها وثائق تاريخية يعتمد عليها المؤرخ كحقائق بمثل ما هي نصوص أدبية خيالية, أخذت من الآداب العالمية بعض عناصرها كما أخذت هذه الآداب منها الكثير من العناصر. علي ان عطاء عبدالحميد يونس لم يقتصر علي دراسة وترجمة النصوص الشعبية بل شمل أيضا الدعوة إلي الجمع والتصنيف لآداب مجهولة بالنسبة للثقافة العربية, نفض عنها الغبار وعرف بها وحللها. ومن أهم ترجمات الدكتور عبدالحميد يونس الأسفار الخمسة أو البنجا تنترا الهندية التي ترجمت من العربية إلي معظم لغات العالم, بعد ضياع النص الفارسي, وتعد أصل كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. وللدكتور عبدالحميد يونس ثلاث دراسات أساسية للسير الشعبية, وهي: سيرة بني هلال, سيرة الظاهر بيبرس, سيرة عنترة, اهتم فيها بمصادرها وتكوينها وأجوائها ومقامها في المحيط المحلي الذي نشأت فيه, كما اهتم بروايتها في مصر في القرن التاسع عشر, وبعلاقات وسلوك الشخصيات التي ترد فيها, كأفراد وجماعات, في أزمنة الصعود والنصر, أو أزمنة التراجع والهزيمة. ومع أن بعض هذه الشخصيات مثل الشطار والعياق كانوا من الخارجين علي القانون, لم تكن الطبقات الحاكمة تتحرج من الاستعانة بهم لحفظ الأمن واستتباب الحكم, في الحواضر والبوادي. وربما كانت ثقة العامة في هؤلاء تفوق ثقتهم في الطبقات الحاكمة نفسها, لأنهم لايقبلون بالفطرة ان ينزلوا الشر بأحد. كما تناول عبدالحميد يونس في بعض كتبه سيرة سيف بن ذي يزن ذات الجذور الافريقية التي يتصدي فيها البطل لأعداء العرب ويخوض المعارك والأهوال في سبيل العدل والحرية. والتراث الشعبي كما يراه عبدالحميد يونس لايولد في بيئة واحدة منقطعة الصلة بسائر البيئات ولايولد متكاملا أو متجانس الصفات, ولكنه يولد في بيئات متعددة لكنه يتكامل بالتراكم الزمني والتفاعل الحضاري عن طريق الهجرة وحسب البيئات التي يختلط بها والأنساق التي يتمثلها في غير تعارض مع الأعراف والمبادئ الأخلاقية, لتلك البيئات أو مع العقيدة الدينية التي تؤمن بها. وعندما شغل عبدالحميد يونس بالكتابة عن التراث العربي ووضع الكتب المتخصصة عن النقد الأدبي والقصة القصيرة في أدبنا الحديث لم يكن بعيدا عن مداره الأساسي الذي دار فيه وارتبط اسمه به لأن الأدب الشعبي العامي والفصيح قد تأثر الأدب الرسمي به واشترك معه في تأليف النوادر والألغاز, وكثيرا ما يحقق الأدب الشعبي من القيم والتأثير ما يعجز الأدب الرسمي عن بلوغه. والجمال الفني عند عبدالحميد يونس هو ما يحقق الرقي للحياة وثقافة العصر وليس هو فن المحاكاة أو الاحتذاء أو تقليد الطبيعة ولن يتحقق هذا الرقي إلا بوعي الفنان بمادته وبمدي قدرته علي انتخاب وتركيب هذه المادة, وقبل هذا وبعده بما يملك من حكمة تدل علي الأصالة والعبقرية. وليس هناك فرق في رؤية يونس بين الفنان صاحب الوجدان الجمعي وبين المتذوق الذي ينتمي إليه الفنان ويشتركان معا في التجربة والشعور. والجهد الفني في نظر عبدالحميد يونس يختلف عن الجهد الصناعي لأن المبدع في الجهد الفني يصدر عن الطبع والإلهام, ويشكل عمله من العدم ولايعتمد في خلقه وصقله علي شيء خارج ذاته, بينما يصدر الجهد الصناعي عن العقل والعضل ويتشكل عمله أو حرفته من المادة الخارجية. ورغم هذا الفارق إلا ان اللائحة التي وضعها عبدالحميد يونس سنة1970 لإنشاء معهد الفنون الشعبية تستثني المبدعين والصناع المهرة من الجانبين الفني والصناعي من المؤهل العلمي وتسمح بالتحاقهم بهذا المعهد ولو كانوا لايعرفون القراءة والكتابة, علي حين اشترط علي الآخرين من طالبي الدراسة النظرية ان يكونوا من حملة الشهادات الجامعية العالية, لأنهم يفتقدون سجية الإبداع وطفراته.