تشهد الساحة السياسية, والاجتماعية في فرنسا نقاشات ساخنة حول الهوية سواء في الجدل الدائر بين السياسيين والأحزاب, أو فيما بين الطوائف, أو حتي فى الدعاية الانتخابيةالمقررة فى مارس المقبل. حتي أن الرئيس ساركوزي نفسه, لا يترك مناسبة إلا ويدخل فيها في هذه المناقشات. وفي الندوة الدولية التي استضافتها باريس مؤخرا, تحت عنوان عالم جديد.. ورأسمالية جديدة, المتعلقة بمناقشة الأزمة المالية العالمية, وبمشاركة العديد من الشخصيات, في مقدمتها رئيس وزراء البرتغال ورئيس الوزراء الفرنسي, ووزير الدولة البريطاني للخارجية, ووزير خارجية البرازيل, وجمال مبارك الأمين العام المساعد للحزب الوطني وأمين السياسات وآخرون. في هذه الندوة خصص ساركوزي, جانبا من كلمته الافتتاحية, لقضية الهوية الوطنية التي دعا لمناقشتها والعمل علي ترسيخ قيمها التي لا تستهدف النبذ أو الاستبعاد أو التهميش, مؤكدا أن الأمة تحتمل التنوع, والتعدد, ولا تخاف من الآخر ولا الانفتاح عليه. ولكن كيف نشأت فكرة الهوية الوطنية؟, ومن تستهدف؟ الفكرة أثارها ساركوزي خلال الحملة الانتخابية الرئاسية بهدف الرد علي ما يسمونه بعودة ظهور نزعات طائفية كما يتضح من قضية البرقع أو النقاب, هذا هو الهدف الوارد علي موقع الإنترنت المخصص للموضوع, وفي صلب الهوية الوطنية تكمن القيم الجمهورية الأساسية, الحرية والمساواة والإخاء, ولكن الأمر في الواقع يذهب الي أبعد من ذلك, نادين مورانو وزيرة العائلة تقول إنها تريد من شباب المسلمين الفرنسيين ألا يتحدثوا بالطريقة التي يتحدثون بها, بقلب الكلمات, وألا يرتدوا الكاسكيت بالمقلوب. وأحد عمد الضواحي من الحزب الحاكم يقول إنه حان الوقت لأن تقول الحكومة بشجاعة وبوضوح, ما اذا كان الإسلام يتعارض مع قيم فرنسا؟!! أما وزير الهجرة والاندماج والهوية الوطنية اريك بيسون المسئول الأول عن الموضوع, فيقول إن النقاش الدائر يتعين تعزيزه ببناء رؤية مشتركة حول الهوية الوطنية. القضية إذن تتعلق في الأساس بالشعور بالانتماء الي الوطن, والي القومية. وما يحدث منذ بضع سنوات, خاصة في مباريات كرة القدم عندما تضج بالصفير في أثناء عزف المارسييز السلام الوطني الفرنسي وهو أمر يثير الاستياء الشديد بين المسئولين ورجال الدولة, والمواطنين الفرنسيين الأصليين, الذين يشعرون بامتهان رمز وطنهم من جانب أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الوافدين أساسا من شمال إفريقيا. ليس هذا فقط, وانما لا تكاد تمر مناسبة كأعياد الميلاد, أو رأس السنة, أو العيد الوطني الفرنسي 14 يوليو إلا ويقوم شباب الضواحي بإشعال النار في السيارات, وأحيانا في محلات تجارية, أو منشآت عامة. كل هذه الأمور, دفعت ساركوزي, الي التفكير في نوع من المناقشة الوطنية, المفترض أن يشترك فيها الجميع, حول الهوية, وكان قراره منذ أن تولي الرئاسة, بإنشاء وزارة تختص بهذا الموضوع, الهجرة, والاندماج, والهوية الوطنية.. ومن هنا فإن الهوية الوطنية ترتبط مباشرة بالمهاجرين, ومن هنا أيضا لابد أن ترتبط بالمسلمين مسلمي فرنسا والبالغ عددهم قرابة الستة ملايين, والرئيس ساركوزي نفسه يعترف بهذه الحقيقة. غير أن المسألة, ليست مجرد مسألة مناظرة ومناقشة, ولكنها أيضا مسألة أوضاع وواقع, وربما شعور متزايد بالنبذ والتهميش, والمراقب المتابع, لابد أن يعود الي ذهنه الأحداث التي مرت قبل قرابة أربع سنوات, ما يسمي بانتفاضة أبناء الضواحي, حين بدت فرنسا علي شاشات التليفزيون وكأنها تحترق, بعد أن فاض الكيل بأبناء الضواحي المهمشة, فخرجوا يعبرون عن احتجاجهم وإن كان بأسلوب خاطئ, ومن ثم فإن الأمر يحتاج الي أكثر من مجرد المناقشة والتنظير.. وانما العمل والإصلاح والتنمية والتطوير, في هذه الضواحي, وفي ظروف هؤلاء المهمشين كي يشعروا حقا بالانتماء. ومما يزيد من وقع وحساسية هذه المناقشات الدائرة الشعور بأنها تستهدف في المقام الأول الإسلام والمسلمين, أنها تأتي في وقت يبحث فيه البرلمان الفرنسي إصدار تشريع يحظر ارتداء البرقع أو النقاب, وقد خرج الرئيس ساركوزي لدي استقباله للبرلمانيين بمناسبة العام الجديد, يعرب عن رأيه, في أن يصدر البرلمان الفرنسي قانونا يحظر ارتداء النقاب, ولكن علي أن يتم ذلك علي مرحلتين, بمعني أنه سيكون هناك أولا قرار من البرلمان, يعقبه قانون حول ارتداء النقاب, فالحجاب الكامل ليس مرحبا به في فرنسا لأنه من وجهة نظره يتعارض مع قيم الجمهورية الفرنسية وفكرتها عن كرامة المرأة. ومن هنا فإن فكرة قانون أو قرار يحظر النقاب يعتبرها البعض موجهة ضد المسلمين, أو لنقل البعض من المسلمين, وهي تأتي بعد حظر ولو جزئي للحجاب في المدارس والمستشفيات, مما يعتبر موجة من المواقف, وإن كانت في الواقع, وفق رأي البعض من المراقبين, تواجه موجة أخري من الاستفزازات, من جانب أبناء المهاجرين, الذين يعيشون في مجتمع مدني فصل بين الدين والدولة واختار العلمانية, والمفترض في المهاجر أن يلتزم بتقاليد البلد الذي يختاره للإقامة فيه, فهو لا يأتي الي البلد ليغيره, وانما ليسايره ويتماشي مع تقاليده في حدود عدم تعارضها مع قيمه ومبادئه. الي أين إذن ستتجه هذه المناقشات, وما الذي ستسفر عنه بالنسبة لطوائف المجتمع الفرنسي الكثيرة والمتنوعة, وأنه لا غني لأي منها عن الآخر, فالفرنسيون الأصليون مع ارتفاع متوسط الأعمار ليتجاوز الثمانين حاليا, لايمكن استغناؤهم عن الدماء الجديدةالشابة الوافدة, ولا المهاجرون الذين اختاروا فرنسا وطنا جديدا لهم, يتمتعون فيه بحياة وخدمات ومستوي معيشة أفضل من ذلك الذي تركوه في الوطن الأم, يستطيعون الاستغناء عن هذه الحياة, وعن فرنسا الأم. فلابد إذن من العمل علي التوفيق, نقول العمل وليس مجرد التنظير والنقاش, فالأمر بحاجة الي إجراءات واصلاحات وتفاهم وتوافق, وليس الصدام والتهميش فالمستهدف في النهاية هي سلوكيات واستفزازات وليست عقائد وديانات.