الآن أتكلم لتبقي أعيادنا أعيادا.. منذ انتشار الفضائيات وزيادة رقعة الحرية المتاحة للتأثير والتأثر, تورط غالبية النجوم الجدد في شهوة التأثير, ووقع الجمهور العريض من مختلف الأطياف والمستويات في فوضي التأثر القدرة علي التأثير غواية إنسانية غريزية, بل هي الطاقة الكامنة في كل منا منذ أن تدب فيه الحياة, فيحاول الطفل التأثير في أحضان أمه ليستدر عطفها, ثم في عائلته, فمجتمعه, فعالمه, ليحقق ذاته, ويطبع صورته كما يحب أن يراها في عيون الآخرين, وأظن أن هذه هي معركة الحياة الحقيقية, فكلما أحسسنا بقدرتنا علي التأثير, كلما شعرنا بالنجاح والرضا وبالتالي بالسعادة, ودائما ما نسمع ونقرأ أن الحياة فن.. فن الحديث, فن الكتابة.. فن السياسة.. فن الكي.. فن الطهي.. فن الصيد.. فن الرياضة.. وبرغم أن معظمها لا يندرج تحت التعريف الحقيقي للفن ولكن تستخدم الكلمة لما لها من مدلول رفيع في التأثير علي الآخرين, فالحياة في الواقع.. تأثير! التأثير مرتبط ارتباط مباشر بالفن, بمعني المهارة والمقدرة والأناة والتمرس, فعندما نعجب بصنعة أو موقف, تقفز الي ألسنتنا كلمة( فنان) للتعبير عن شدة الإعجاب والتأثر بما نري أو نسمع, فالدافع الوجداني الإنساني يتطلع للرقي والسمو, فهو كائن علي الأرض ويتطلع الي السماء, ووسائله في ذلك كلها تتجمع في الفن, فبه يمتلك وسائل الإدراك للجمال والخير والنافع, ودونهم هل تبقي حياة تستحق أن تحيا؟! والجذور الأولي لولادة فن التأثير تعود للخوف الوهمي, من قوي الطبيعة المجهولة, للإنسان البدائي الذي أحاطته المخاوف من كل جانب, من قوي الطبيعة والحيوان والبشر والمرض, فبحث عن وسائل الأمان, فلما أوعزته, لجأ الي الفن, يخترع له ما يشاء من خرافات ومنتجات فنية, يركن إليها, لتهدئ من روعه, وكلما تقدم استعاض بالحرفية العقلية لإنتاج العلم, الذي قلل من مخاوفه, ولكن لم يستغن عن الفن لإدراك الجمال, أو الخير في السلوك, أو ما هو نافع في الفكر والأشياء, ويستمد الفن قوته من القدرة علي التأثير, فالفنون القديمة تكمن فيها قوتها, التي مازال الباحثون يرصدون القيمة الكامنة, التي نجحت في وقت من الأوقات, أو في مكان ما, في التأثير علي الناس, فهذه الخلاصة قد تفيدنا الآن, إن استطعنا أن نضعها في صياغة عصرية, لمبدعين لاحقين, قادرين علي تفعيلها, كما يفعل الصيدلي في استخدام المواد الفعالة في النباتات والكيماويات في أدوية جديدة تحدث أشد تأثير! نجاح رواد المدرسة( التأثيرية) في فن الرسم, جاء من عودتهم الي البدائية في الألوان الأصلية, فاستعانوا بها دون مزجها, كما هو المعتاد, وبقدر حساس, بضربات قصيرة لريشة حرة, في تسجيل اللحظة الفنية للحياة المدنية الحديثة, قبضوا علي الإيحاء, بدلا من التفاصيل الحقيقية, وأخرجوا الرسم من داخل الاستوديوهات الي الطبيعة الحرة في الهواء الطلق ونور الشمس, فأعطوا احساسا مكثفا بالحياة, بتكنيك جديد ينقل انطباعهم عن الواقع قبل الواقع نفسه, ولذا نسمي أيضا المدرسة الانطباعية فكان لها أعظم تأثير علي الفنون الأخري, وعلي الناس ومازال تأثيرها ساريا حتي الآن برغم تتابع المدارس الفنية بعدها التي حاولت الوصول الي قدر أكبر من التأثير. ومن شغفي الكبير بهذه المدرسة التأثيرية, دائما ما تكون الزيارة الأولي في أي برنامج لضيوفي الأجانب بالقاهرة, هي متحف( محمد محمود خليل) الذي يزخر بأعمال رواد المدرسة التأثيرية مثل مونيه ورينوار وديجا وسيزان ومانيه وخاصة مونيه, وفان جوخ سابقا!. مع المستجدات علي حياتنا المعاصرة, تنوع وسائل التأثير, واتساعها, ووفرة جمهورها في العالم العربي, مع قلة المؤثرين أصحاب الرسالة الإنسانية, لأسباب شتي تتعلق بتطور الدولة الحديثة في العالم العربي, وانتكاساتها, ولأن الحياة لا تقبل الفراغ فظهرت النجومية الكاذبة لشخصيات تملأ الدنيا صخب وتتباري في الابتذال, والسوقية, بضاعتها الوحيدة, فأصبحت البرامج تسمي بأسماء مثل حرب, وضرب, وازعاج والهزؤ, والزراية لكل قيمة وطنية وإنسانية باستهتار عجيب, وتقدمت الممثلات ولاعبي الكرة في صدارة المشهد الحضاري الراهن, مما يشير الي أي مستوي تدنت الثقافة العامة, وتراجعت المقاييس الشكلية والصوتية واعتمد القبح شكلا وموضوعا, مادام يلفت الأنظار, ورغم انها أخذت حيزا من حياتنا ودهشتنا واستنكارنا, إلا أن هناك جمهورا يتابعها كسرا للملل, وبحثا عن رؤية للحياة, وكيفية اتخاذ موقف, وأيضا كيفية تفعيله, ولكن السؤال هل هناك من استفاد من هذا الصخب إلا استهلاك الوقت الفارغ؟! خاصة بعد تراجع الاهتمام بالقراءة والحصول علي المعرفة بطرق ذاتية, وأصبح الكسل العقلي يستسهل مشاهدة البرامج الفضائية السريعة, وما فيها من تسلية وفرجة علي شخصيات فارغة ومتضخمة, برغم نصيحتي لكل من أحب بالاعتماد علي القراءة في اتخاذ المواقف, إلا أن تأثير الفضائيات يجب ألا يترك دون ضوابط مهنية, برغم قناعتي الكاملة بأن هذه الظواهر الكاذبة تنفي نفسها بنفسها, فالاعتماد علي القبح والجهل والإثارة وعدم الموضوعية والانحياز المغرض بضاعة متوافرة بكثرة, فهي رخيصة واستهلاكية, إلا أنه كما للأشياء النافعة تأثير, فللضارة تأثير, قد يصل إلي حد الجريمة, فالمعرفة تفيد في الشر كما تفيد في الخير بالمثل! وتعتبر المعرفة الدينية من أنفع عقائد النوع البشري, كما يري( فولتير), إلا أن الشر أو الجهل أو الأنانية قد تستخدمها في قطع الصلات والعلاقات ونزع الرحمة والود والحب والاحترام من النفوس, فهناك من المتحدثين باسم الدين( سني شيعي مسيحي) من يحرص علي إيقاظ الفتن, واستدعاء الخلافات التاريخية, التي لم تعد تهم أحد, لتأجيج نزاعات وخلافات, نحن جميعا في غني عنها, لكن الشر الذي يكمن في التوظيف السياسي, والجهل في كيفية الدعوة الخيرية في كل أوجهها, مما ينفي عنها صفة الدين الإلهي, الذي يجب ألا يحمل إلا الخير فقط, ولكنهاالأنانية في الانزلاق لحشد المريدين لتعظيم الذات والاحساس الخبيث بالقدرة علي التأثير, إلا أن كل ذلك يجعل دينامية( الشر والجهل والأنانية), لا تبقي تحت سيطرة من أنتجها, وخطورتها أنها تتصل بالعقائد الدينية فتحولها الي تعصب, يتطابق مع الالحاد, باقتراف الجرائم بدم بارد, فينتج إرهاب يولد إرهابا.. وهكذا. وكانت صديقتي العزيزة الزميلة( نادية الملاخ) تطلب مني الكتابة لمواجهة التعصب الديني الذي يتفشي إسلاميا ومسيحيا, ولكنني دائما ومازلت أتمتع بحسن النية, والثقة الكاملة, بأننا فعلا في مصر نسيج واحد الأغلبية مسلم وبعضه مسيحي, ولكننا نؤمن بأنه رحيم رحمن بيده الخير كله, بينما الشر من عندنا بالاستسلام لغواية الشيطان, ولم تطاوعني يدي في التطرق لهذا الموضوع حتي لا يخرج من كونه تصرفات فردية شيطانية معزولة, تذهب هباء, لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض, ولكن الآن أتكلم.. بعد تورط رموز كبيرة في هذا الشأن المتعصب, وأقول لهم إن عليهم أن يتداركوا أمورهم قبل أن يقولوا مثل أوديب: استحلفكم بالله أن تسارعوا بإخفائي عن الأنظار قودوني الي مكان سحيق فاقتلوني, والقوا بي في اليم, حيث لا يراني أحد أبد الدهر.. فعليكم أن تأخذوا حذركم, وأن تتبحروا في عواقب أموركم ونهاية أيامكم, إذ لا ينبغي أن نحكم علي الإنسان أنه سعيد إلا اذا انقضت الساعة الأخيرة من حياته, وانتقل الي العالم الآخر من غير ألم أو ووزر يحمله. فلا يفرح أحد بالتفاف جمهور من المتعصبين حوله ويقع في غواية التأثير فيهم, ففي وقت ما سيكشفون الزيف الذي تورطوا فيه وساعتها سيدرك معني وحشية الجمهور.. التي تستحق حديث آخر. المزيد من مقالات وفاء محمود