في الخامسة عشرة تزوجت في السادسة عشرة أصبحت أرملة. وجه دافق للوجود يموج بتلك الغلالة السحرية لحورية مسها ندي الفجر, فراح يدعو ملائكة السماوات أن تهبط أرضا لتلمس طيف وجودها فتعرف معني الصلاة. عيون ليست تقبل أن تطبق الجفنين, وتحلم علي اتساعها, ليست كنساء الأرض لم تجرؤ علي روعة حوريات الجنة, ولكنها أيضا كانت أكثر وجودا منهن وكانت لها غلالة سحرية. خصها الوجود بشعر يسترسل في الليل, وحين يكون الضوء أقل جرأة من البوح, يترك به روعة المد والجزر التي لاتنتهي,فيما بين وقاحة الشمس وخجل القمر, يتسلل بروعة خيوطه ويحاذر خوفه, خوفه مم؟ زوجها الذي في البداية لم تحبه, لم تكرهه لكنه كان زوجها الذي اختاروه لها, طيب القلب ومنكسر كان يكبرها ليس قليلا, ليس كثيرا, وهي بجمالها تتنفس للوجود روعة ليس يملكها, وتعتقد أن الوجود لابد أن ينحني ولو قليلا لها, وتحنو عليه, وإن لم تعرف لماذا؟ صانع قربان الكنيسة, يعيد جسد المسيح إلي الوجود كل يوم ليتناوله البشر, ويترحمون وكانوا يسمونه قرابني الكنيسة, فقير هو. ليس لديه ما يقدمه لها, طعامه وشرابه وكساؤه من الكنيسة, فقيرة هي, لم تتطلع إلي الثراء. فقد كان محيطها كله فقيرا. تعجن القربان وينضجه هو, وكانا يرتلان معا, ويصليان حين العجين يختمر, وحين ينضج ويطلق الرائحة, تتصاعد منهما آهة تنسحب إلي آهات. هي تعرف كيف للعجين أن يختمر بأنفاسها ويطلق الرائحة قبل أن ينضج, هو يعرف متي يشتعل حس النار ومتي يخبو, فينضج بينهما حس دفء القربان الخارج من الفرن, حين يقترب منها, وحين يعانقها, وحين يشتعلان كانت تشم رائحة القربان في أنفاسه, فصارت تحبه وإلي الرائحة تهفو كأنما الحلم هي. حين راح وليدها يدفق بالحياة وينتفض في الرحم, كان زوجها يصلي أن يمنح الرب لوليده النور, وحين أبصر الوليد النور كان الأب قد لفظ أنفاسه الأخيرة, وانداحت في الأفق رائحة لم تعرف كنهها, لم تعرف مصدرها. لم تحزن, لكن حسا من الشجن أكثر عمقا من الحزن سري في كيانها ولم يفارق استباحت لنفسها أن تعذب الوجود بوجودها, لم تذبل كالأرامل بلا أمل, ولم يخب جمالها كزهرة ترفض الموت, راحت تتفتح كل يوم, كما لو كان الشجن ينضجها فيزداد بريقها ألقا. توالي الرجال يطلبونها, لكنها لم تشم رائحة القربان الدافيء فيهم. ليس فيهم من له طيبة القلب نفسها أو الانكسارة الحنونة, ليس لهم ترتيلة صغيرة في العينين. كانت تحتضن وليدها وتعذب وجودهم, وربما وجودها أيضا, لكن متعة تسري في كيانها بتعذيبهم وبعذابها. حين بلغت من العمر الذروة التي حلمت ذات يوم, كان شعرها لايزال له روعة المد والجزر, وإن كان إلي الأبيض صار. وجهها مازال مستديرا وعميقا يهمس غلالته السحرية, مسها ندي الفجر الذي لم يفارقها, كان القمر كقرص قربان في عميق السماء تنضجه الظلمة, ويتجلي بدرا من سطح منزلها البسيط الذي لم تفارق. راحت تتطلع إليه عميقا, لم يحتمل القمر مرآها سرت فيه رعشة. جرؤ, راحت أشعته تشتد وتمتص أشعته الغاربة جسدها إلي رحيل الضوء. انسل جسدها خيوطا في رهيف رائحة قربان ساخن, شهقت شهقتها الأخيرة. سألته: تري ياقمر من كان قربانا للآخر؟. نفس الترتيلة التي كانت لعينيه انداحت في الأفق أريجا لا ينتهي.