اهتم المسلمون عبر التاريخ بأدب التعبير عن النفس وتكلموا عن قضية الاستشهاد وهي أن نورد شاهدا ودليلا للكلام, سواء أكان من القرآن أو السنة الشريفة أو الأمثال أو الشعر أو الحكمة المأثورة أو النصوص المنقولة. لكنهم عظموا القرآن الكريم وعاملوه بقدسية لم يعاملوا بها سائر النصوص الأخري. 1 فتراهم يجيزون رواية الحديث بالمعني, بشرط أن تكون من فقيه عالم بمقتضيات اللغة حتي ينقل المعني كما هو وإن اختلف اللفظ, بل رأينا البخاري يقطع الحديث ويرويه مختصرا مرة وكاملا مرة في صحيحه مثل حديث إنما الأعمال بالنيات والذي ذكره نحو تسع مرات في أبواب مختلفة. 2 كما رأينا روايات مختلفة للشعر الذي أجازوا لأنفسهم فيه ما يمكن أن نسميه التناص, ورأينا ذلك في مجال النقائض الذي كان من أشهرها نقائض جرير والفرزدق, وتري فيها الشاعر يرد علي الآخر بقصيدة من نفس الوزن ونفس القافية, ورأينا أيضا النهج, فالبوصيري يكتب بردته في مديح النبي صلي الله عليه وآله وسلم, وعلي نفس الوزن من بحر البسيط يكتب أحمد شوقي نهج البردة الأول يبدؤها فيقول: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا جري من مقلة بدم والثاني يقول: ريم علي القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم بل رأينا من يخمس هذه القصائد أو يسبعها فيزيد فيها معاني أخري غير التي ذكرها الأول, ورأينا أيضا في مجال الشعر ظاهرة( الشعر الحبنتيشي) وقد شاع في النصف الأول من القرن العشرين علي يد حمام وحسين شفيق المصري وجيلهم, فشوقي يقول: مال واحتجب.. وادعي الغضب.. ليت هاجري.. يشرح السبب في قصيدة طويلة رقيقة, فيجعلها حمام: انشال وانخبط.. وادعي العبط.. ليت هاجري.. يبلع الزلط فتتحول القصيدة الي أضحوكة وسخرية قد تمس القصيدة الأولي وشاعرها, ويصدر حسين شفيق المصري كتابه الظريف بعنوان أبي نواس الجديد ويذكر فيه ما سماه المشعلقات السبع وهي قصائد نظمها علي نفس الوزن والقافية للمعلقات السبع, ويبدأ مشعلقة منها فيقول وهو يحاكي بها معلقة طرفة بن العبد: لزينب دكان بحارة منجد وقوفا بها صحبي, علي هزارها أنا الرجل الساهي الذي تعرفونه تلوح بها أقفاص عيش مقدد يقولون لا تقطع هزارك واقعد حويط كجن العطفة المتلبد الي آخر المشعلقة التي يرحب بها الناس ويستأنسون بها لعدم قداسة معلقة طرفة بن العبد ولعدم نزولها في النفوس المنزلة العليا وهو يقول في أولها لخولة أطلال ببرقة ثهمد وقوفا بها صحبي علي مطيهم كأن حدوج المالكية غدوة تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد يقولون لا تهلك أسي وتجلد خلايا سفين بالنواصف من دد 3 حتي إن النظم العلمي لم يسلم من ذلك, فعند قول ابن مالك في ألفيته: فأخذها بعضهم فقال: والأصل في الفراخ أن تحمرا وجوزوا التسليق إذ لا ضررا 4 وهذا التناص رفضه علماء المسلمين مع الكتاب والسنة وضبطوا قضية الاقتباس من القرآن والسنة ووضعوا لها شروطا, وحرموا هذا التناص, بل انهم حرموا الاستشهاد بالقرآن اذا انتقص أو أوهم الانتقاص لكتاب الله أو سنة نبيه صلي الله عليه وآله وسلم فلا يجوز عندهم أن يقول رجل لابنه واسمه إبراهيم يا إبراهيم أعرض عن هذا, أو ينادي ابنا له اسمه يحيي فيقول له يا يحيي خذ الكتاب بقوة, أو يقول أحدهم وهو يقدم طعامه لأضيافه هنيئا مريئا بما أسلفتم في الأيام الخالية, أو يكتب خياط نحن نقص عليك أحسن القصص, أو محل لعصير القصب وسقاهم ربهم شرابا طهورا, أو محل لإصلاح الساعات ويسألونك عن الساعة, فكل هذا الاستشهاد عد انتقاصا أو إيهاما للنقص فهو حرام( راجع مقدمة تفسير القرطبي). 5 وأشد من ذلك في الحرمة ما فعله بيرم التونسي أيام تمرده من محاولة التناص مع القرآن والحديث, ثم رجع في نهاية حياته فتاب وحسنت توبته, وكان يذكر هذه الأيام ويقول: لا أجعل في حل من يروي عني هذا التمرد, وألف رائعته معلنا توبته: دعاني لبيته لحد باب بيته, وعلي الرغم من ذلك نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب الأعمال الكاملة لبيرم التونسي فذكرت محاولاته هذه والتي ما كان ينبغي أن تذكرها وقد تبرأ الرجل منها, وبالرغم من أن مشايخنا قد نهونا عن ذكرها وتردادها, إلا إننا نري أن بعض الكتاب مازالوا يفعلون هذا فيحاولون أن يقلدوا النظم القرآني في مسائل تدخل في باب السخرية السياسية أو الاجتماعية, فيقول مثلا تبت يدا فلان وتب ويذكر اسم خصمه السياسي وهو ما لا يليق بجلال القرآن. 6 كثير من هؤلاء الكتاب مسلمون وصالحون, وقد لا يعلمون الحكم الشرعي لهذه الطريقة من التناص التي وإن صلحت في الشعر أو في الغناء أو في الهزل من القول فإنها لا تصلح مع جلال كلام الله, والدعوة عامة للكتاب ألا يخوضوا في مثل هذا المسلك مراعاة للأحكام الشرعية من جهة, ومراعاة لشعور المسلمين من جهة أخري. والحقيقة اني أردت بهذا المقال بيان الحكم الشرعي والنصيحة في الدين ولم أرد به أي انتقاص من كاتب بعينه والله يهدي الجميع الي سواء السبيل.