بين التشدد الرئاسي والغياب الحزبي, وانعدام الشوري, تعيش فرنسا منذ أسابيع حالة من الشلل المتزايد والمتصاعد لا يعرف أحد كيف تنتهي, ومتي تنتهي. إضرابات ومظاهرات, مصادمات ومجابهات, أعمال عنف وشغب, وتدمير وتخريب, وعمليات سلب ونهب وتكسير وحريق, وبين غليان الشارع والنقابات, وتشدد السلطة التنفيذية وتصلبها, خرجت تليفزيونات العالم وصحافتها, تصور الوضع وكأنها الحرب قد اندلعت, بسبب معركة قانون المعاشات الجديد. القانون الجديد يزيد السن القانونية للتقاعد, من60 سنة الي سن62 سنة, وسن المعاش الكامل من65 سنة الي67 سنة, لأن نظام المعاشات سينهار مع وجود عجز كبير في ميزانية صندوق المعاشات, ففي الوقت الحالي, وكما أعلن الرئيس نيكولا ساركوزي هناك واحد من بين كل عشرة متقاعدين يحصلون علي معاشاتهم بالدين أو الاقتراض. ويقول لوك شاتيل المتحدث باسم الحكومة, إن متوسط الأعمار يزيد ثلاثة أشهر كل عام, بالإضافة الي أنه يوجد في فرنسا حاليا16 مليون متقاعد, أي ربع السكان وتبلغ ميزانية المعاشات261 مليار يورو, أي أكثر من13% من إجمالي الناتج المحلي لفرنسا, ونظرا للزيادة القوية في عدد المتقاعدين, حيث ينضم الي النظام280 ألف متقاعد جديد كل عام, فإن النظام مهدد بالانهيار حيث يصل العجز حاليا في ميزانية التقاعد الي32 مليار يورو, ومن المتوقع أن يتضخم في السنوات المقبلة ليصل الي70 مليار يورو عام2030, والي مائة مليار يورو عام2050. المسألة إذن بالنسبة للحكومة, انقاذ نظام كامل لصالح المتقاعدين الحاليين والقادمين من الأجيال التالية, وهو أمر لابد منه, والمحاولات في هذا المجال ليست بالجديدة, فقد حاول ذلك آلان جويبه رئيس الوزراء الأسبق في عهد شيراك عام1995, وهاجت النقابات والشارع الفرنسي وأجبرته علي التراجع بعد22 يوما من الاضرابات والمظاهرات شلت البلاد شللا كاملا وتوقف الإصلاح. ثم جاء الرئيس ساركوزي بوعود انتخابية بإصلاح النظام الاقتصادي كله في فرنسا لإعادة البلاد الي مكانها وموقعها وتنافسيتها في الأسواق العالمية, غير أن الظروف العالمية لم تمكنه من ذلك, حيث تسببت الأزمة المالية العالمية في وقف حالة النمو في سائر البلاد عامة وفي فرنسا خاصة. ومع ما يواجهه ساركوزي من تراجع في شعبيته التي وصلت الي أدني مستوياتها, ومع اقتراب ساعة الانتخابات الرئاسية وأيضا النيابية المقررة في ربيع عام2012, فإن ساركوزي ليست لديه رفاهية التراجع في تنفيذ إصلاح المعاشات, فهو يراهن بذلك علي مستقبله, وعلي مستقبل اليمين الحاكم السياسي إن كان المستقبل مازال مطروحا. كان الحلف الاجتماعي بين الحكومة والنقابات بأن يتم تأمين ما يسمي الحد الأدني من الخدمة في الخدمات العامة وقت الاضراب, الأمر الذي جنب البلاد والمواطنين مصاعب التوقف الكامل والشامل للخدمات. وهو ما حدث بالفعل في بداية الاضرابات والمظاهرات, حيث اقتصر الأمر علي الغاء نسبة من الرحلات الجوية ومن حركة السكك الحديدية ومن حركة المواصلات العامة, ولكن ما لم يكن في الحسبان والذي أحدث الألم للمواطنين ولأصحاب المشروعات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة وأحدث الهلع والفزع لدي الحكومة والرئاسة من ناحية, والاتحادات الطلابية وخاصة تلاميذ المدارس الثانوية من ناحية أخري. إضراب سائقي الشاحنات مع محاصرة مصافي البترول ومستودعات الوقود, إضافة الي اضراب عمال الشحن والتفريغ في المواني خاصة في مجال البترول, وما يتبع ذلك من شل حركة سيارات النقل التي تخدم الأسواق, إضافة الي قيامها بحركة سير بطيء علي الطرق السريعة, وسد كامل لبعض المحاور الرئيسية, وإغلاق للمداخل المؤدية الي المطارات في باريس وفي مرسيليا بشكل أثار المخاوف والمقارنات, مع ذلك الذي حدث في عام1995. فلجأ ساركوزي الي التشدد والحزم والقوة وأصدر الأوامر باستخدام القوة, لفك الحصار عن المصافي ومستودعات الوقود ومحطات الخدمة, وقد قامت قوات النظام والأمن ومكافحة الشغب علي الفور بعمليات في هذا المجال, ولعبت معها نقابات سائقي الشاحنات لعبة القط والفأر. ثم جاءت الضربة الثانية من الاتحادات الطلابية, إذ نزل الطلاب تلاميذ المدارس الثانوية, الي الشارع يشاركون في الاضرابات والمظاهرات, فئة من المراهقين يصعب التكهن بسلوكها وتصرفاتها وتحركاتها, خرجت تعطل الدراسة في أكثر من900 مدرسة ثانوية, وتقوم بمظاهرات تختلف عن مظاهرات النقابات والعاملين تصطدم برجال النظام والأمن تقذفهم بالحجارة والمقذوفات والزجاجات المشتعلة الحارقة, أشعلوا النيران, في احدي المدارس في الجنوب وكسروا العديد من السيارات وأشعلوا فيها النيران وقاموا بأعمال تخريب وتدمير استمرت عدة أيام في العديد من الأماكن وقاموا بعمليات سلب ونهب وتكسير للمحلات التجارية. أعمال أثارت المخاوف من دخول أبناء الضواحي المهمشة في ميدان المعركة, ومن هنا خرج الرئيس ساركوزي يصعد من تشدده وتصلبه ويشن هجوما علي من يصفونهم بالمخربين الأوغاد, المتسببين في أعمال العنف والتخريب, ويؤكد أن هؤلاء المخربين لن تكون لهم الكلمة الأخيرة في الديمقراطية وفي الجمهورية. ويؤكد أيضا أن الاصلاح لارجوع عنه, وهنا بيت القصد, فساركوزي لابد أن يحقق الاصلاح ليكون هو المبرر والداعم لحملته الانتخابية المقبلة في2012 ؟! والي أن يحين هذا الوقت, المواجهة مستمرة, والتساؤلات مستمرة, حول السبيل الي الخروج, وحول العواقب المترتبة علي هذه المواجهة الأقوي في عهد ساركوزي, وعلي مستقبل اليمين الحاكم, ومستقبل ساركوزي, بعد أن أعلن دوفيلبان أن اليمين يمكن أن ينتصر في معركة المعاشات أو بالأحري معركة إصدار القانون, ولكنه بالتأكيد قد خسر بالفعل انتخابات2012. إن قانون التقاعد الجديد هو مسألة حياة أو موت أولا للحفاظ علي نظام المعاشات, وربما لا نكون مبالغين اذا قلنا إنه كذلك أيضا بالنسبة للمستقبل السياسي لساركوزي, ومن هنا كان الإصرار والتشدد والمواجهة.