في ظهيرة حارقة, هبطت الشمس بنفسها ليكون في بطنها طريق طويل يمتد بين كثيب رملي منحدر بحدة, وماء أصفر صامت, راكد, لا يصل البصر الي نهايته. وفي الطريق رجل يسير بقدم تغوص في التراب الساخن, لا تتحول عينه عن ألق يأتي في خيوط مشدودة من بعيد, من التقاء السماء بالأرض في عمق المدي الذي يتوغل فيه الطريق. غبار كبخار الماء يتصاعد من التراب مع كل خطوة, ورغم أن البريق يبتعد بمقدار السير, واصل الرجل خطواته في ثبات بلا وهن أو ملل, رغم خشيته من ظهور العفريتة. فجأة غير مفاجئة: ظهرت العفريتة للرجل وبرقت فيه, انخلع قلبه, نز العرق من أنامله, سقطت أظافره وسقط شعره مرة واحدة. اقتربت العفريتة ببطء من الرجل ثم قالت فجأة عوووو. انفجر الرجل, تبعثرت أجزاؤه, قدم علي حافة الماء, يد علي الرمل, عين هنا, قطعة هناك, وتناثر دمه وتعلق ناشفا في الهواء. لملمت العفريتة أجزاء الرجل, رصتها علي بعضها, ووقفت أمامه فسدت سيل البريق. كعادته وثمة عادات لا يعرف الناس أنهم يعتادونها لم يتساءل من أين جاءت العفريتة. اتفاق من طرف واحد: وضعت العفريتة يديها في جنبها كزوج ناشز, وتقنفذ الرجل أمامها كتلميذ مذنب. ككل العفاريت لهذه العفريتة شعر طويل كثيف, أسود, لامع, ناعم, لكنها غير كل العفاريت ذات شكل غير مخيف, بل لابد من القول إنها جميلة جدا, ويمكن القول إن جمالها الشديد زاد من شدة الخضة في قلب الرجل, فأملت هي الاتفاق بينهما أن يسوي آثار قدميه في التراب كشرط لاختفائها من طريقه. التنفيذ: أعطي الرجل ظهره للبريق وعاد يسوي آثاره في التراب حتي نفد عرقه, ورشح جبينه دما باردا رغم تأجج الشمس, والتراب يشوي لحم قدميه ويديه. مثل قطعة من القماش اعتصرت حتي كادت تتقطع وبرغم ذلك احتفظت ببعض الابتلال, هكذا يمكن تشبيه الرجل وقد اعتصره التعب وتعري العظم في يديه وقدميه عند وصوله وتسويته لآخر أثر, ويمكن النظر لبقايا الابتلال بقطعة القماش كأمل الرجل في أن يعود وأن تكون العفريتة قد اختفت, فيستطيع مواصلة السير باتجاه البريق. نهاية غير نهائية: انتهي الرجل من آخر أثر, ورفع وجهه فوجد العفريتة أمامه, إحدي يديها في جانبها, والأخري تشير خلفه, قالت: انظر. نظر الرجل خلفه فرأي البريق دانيا كالحلم, كالقطوف الدانية من شجر الجنة, كأنما قطع المسافة إليه لا مبتعدا عنه, وكاد يري في العفريتة من الجمال ما يغالب الخوف منها. قالت: أنا لا أشير الي البريق, أنا أشير الي تراب الطريق, وأقول لك انظر لتري آثار قدميك الجديدة, فأنت لم تنتبه الي خطوك أثناء عودتك وتسويتك لخطوك القديم, سأظل أمنعك من المرور الي البريق حتي تنفذ شرط اختفائي. نهاية نهائية: انكب الرجل علي الآثار متجها بظهره ناحية البريق, ليمحو كل أثر, سوي بسرعة وخبرة, بعد قليل أدار العنق ونظر, لم يجد أي أثر, كأن لم يمش في الطريق أحد, شعر بالإنجاز, انغمس بهمة أكبر, يسوي منحنيا ومترفصا وبين بين, لكن الطريق بدا كأنما يمتد, والآثار التي يتوجب محوها لا تقل مع الوقت, فيما تضعف قوة الرجل, وتدب الرعشة في يديه, وخطواته, والتراب يعفر الرؤية ويرفو جوانب صدره, يدوخ, يعتدل, تظلم الدنيا, ويعاود التسوية, يراجع ما أنجز فيري خيوط البريق ترتخي وتسل وسط الطريق, تغمر الآثار الباقية في التراب, وتغيم مختلطة الي خيالات متماوجة. وفيما يسوي آثاره سائرا بخطوات واهنة زائغة, وظهره في اتجاه البريق, اختلت خطوة تحت قدمه, انتبه الي انحراف مساره في اتجاه حافة الماء المنحدرة بحدة مثل الكثيب الرملي, انهارت خطواته وتدحرج لأسفل, انغرست أصابعه تقبض علي التراب الناعم بلا فائدة, وابتلعه الماء الأصفر بنهم بارد في أقل من وقت التساؤل. [email protected]