كانت ثورة1919 بزعامة الوفد قد نجحت في أمرين, أولهما: جمع قوي الأمة تحت شعار واحد, هو الاستقلال التام أو الموت الزؤام وذلك بما يكلمه ويلزم عنه ويدعمه من شعار الدين لله والوطن للجميع الذي أعاد الوصل بين طوائف الأمة, مؤكدا وحدتها الدينية في مواجهة عدوها, ومجسدا المعني الخلاق لتنوعها الديني في مواجهة الخطر الواحد, وكان ذلك تأكيدا لفكرة المواطنة الملازمة للدولة المدنية المستقلة والرافضة لأي تمييز ديني أو طائفي أو عرقي أو جنسي. أما الأمر الثاني فكان إصدار دستور1923 الذي يعد أكثر الدساتير المصرية وأكثرها نزعة مدنية الي اليوم. ورغم أن استبداد الملك فؤاد حاول جذب مواد الدستور الي صالحه بواسطة أعوانه الذين زرعهم في لجنة الثلاثين التي أنيط بها صياغة مواد الدستور, ومع أن سعد زغلول( زعيم الأمة) كان معارضا لتشكيل لجنة الدستور التي أطلق عليها لجنة الأشقياء التي خلت من أغلبية وفدية, فإن صدور الدستور والعمل به هو الذي أوصل الوفد الي الحكم بأغلبية شعبية ساحقة وغير مسبوقة وبطريقة أكدت أن الوفد أصبح الممثل الشرعي للأمة وأمانيها الوطنية في الحرية والاستقلال وتأكيد قيم المواطنة ولوازم الدولة المدنية الحديثة علي السواء. وعندما توفي الملك فؤاد سنة1936 وتولي الحكم ابنه فاروق الأول, كان الوفد ممثل الأغلبية الساحقة الذي خلف سعد زغلول بعد وفاته سنة1927 مهيمنا علي الساحة السياسية, وكانت الوزارة الوفدية برئاسة النحاس هي الوزارة التي شهدت وتولت عمليا تنصيب ولي العهد ملكا للبلاد باسم فاروق الأول سنة.1963 ولم يكن يشغل المصريون, في عام إصدار الدستور وعودة سعد زغلول من المنفي, سوي سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية في اسطنبول, وإعلان الجمهورية التركية بزعامة كمال أتاتورك بوصفها دولة مدنية حديثة, وكان إعلان الجمهورية التركية المدنية والإسلامية في آن هو ضربة قاسية للأنظمة البالية التي استغلت الدين في تأكيد شرعيتها وتبرير استبدادها في الوقت نفسه, ولم يكن أدل علي إسلامية الدولة التركية الجديدة من تأكيد احترامها للإسلام بوصفه دين الأغلبية, وتعهد الدستور بالحفاظ علي الحريات الاعتقادية والدينية والروحية علي السواء, فضلا عن تأكيد قيم الديمقراطية والمواطنة, وهو الأمر الذي أحدث تأثيرا مدويا, وتسبب في صدمات بالغة القسوة, للعقل التقليدي الإسلامي الذي ظل متمسكا بفكرة لخلافة وصفها ركنا من أركان الدين الإسلامي, وأساسا لابد من الإبقاء عليه للحكم في الدول الإسلامية التي ظلت النخب التقليدية فيها تري في إعلان الدولة العلمانية( المدنية) التركية نوعا من الخروج علي الاسلام الذي للابد من مقاومته ومحاربته بوصفه كفرا ولم يفكر واحد من مفكري هذه النخب أن يكشف عن استبداد الخلافة أو تاريخها الدموي, أو حتي استبدادها بالمسلمين باسم تأويلات باطلة عن ضرورة طاعة أولي الأمر, وإن جاروا, كما ذهب الفكر السلفي الذي ظل سائدا منذ ثورة الحنابلة علي المعتزلة بدعم الخليفة المتوكل الذي أعلن نصيرا للسنة ومذهب السلف. في هذا السياق التاريخي, أعلن حسن البنا عن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية, وهي واحدة من المدن الواقعة تحت الهيمنة المباشرة للإحتلال البريطاني المتعاون مع حليفه الفرنسي, وكان ذلك سنة1928 بعد وفاة سعد زغلول بعام واحد, وفي سياق يردد أصداء سقوط أهم معقل لدولة الخلافة الإسلامية, والبحث عن معقل جديد لإحيائها وبعثها بدماء جديدة يمكن ضخها في عروق الفكر السلفي لتأكيد سلفيته وراء أقنعة مغايرة, ولكن مشابهة وموازية, ولم يكن من المصادفة أن أول دعم مالي ضخم( بمقاييس ذلك الزمان) للجماعة, كان من هيئة قناة السويس, وبتشجيع من سلطة الاحتلال البريطاني. وعندما انتقلت الجماعة من الإسماعيلية الي القاهرة سنة1932 لم تلق أي عنت من سلطة المعتمد البريطاني, ولا أي مظهر عدائي, بل علي العكس وجدت تفهما أقرب الي الترحيب بجماعة تعد شعاراتها تهديدا مباشرا لشعارات ثورة1919 عن الدين لله والوطن للجميع فضلا عن فكر قائدها الديني حسن البنا الذي كان أحد المدافعين عن فكرة الخلافة, وداعيا الي إحيائها سياسيا, ومتبنيا للفكر السلفي الذي يقبل ميراث الصوفية السنية التي تعادي النزعات العقلانية في الفكر الإسلامي. وكان من الطبيعي أن تحتفي النخبة الممثلة للفكر السلفي الديني السياسي بالقادم الجديد حسن البنا, وأن تصل حباله بأهم حليف ديني سياسي لها, وهو الفكر الوهابي الذي ينتسب الي الفكر السلفي في النهاية, وكان قائده محمد بن عبد الوهاب متحالفا مع عبد العزيز بن سعود الذي فرض الهيمنة السياسية الكاملة علي شبه الجزيرة العربية الذي أصبح يعرف باسم السعودية, وقد وجد ابن سعود في سقوط الخلافة في اسطنبول ما يغري بإعادتها الي المركز الروحي للمسلمين الذي أخذ يتطلع لأن يكون مركزا سياسا لخلافة من نوع مماثل في الجوهر, ولذلك وجد حسن البنا ما يدعم جماعته من أمثال محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب( مؤسس المكتبة السلفية) اللذين ظلا علي صلة تحالف وثيقة بمطامح عبد العزيز بن سعود دينيا وسياسيا.ولذلك لم يجد القائد والزعيم حسن البنا( خريج كلية دار العلوم الأقرب فكريا الي مذهب أهل السلف التقليديين) ما يعيق نشاط جماعته في القاهرة, فالإنجليز راضون عنه, بوصفه حليفا محتملا في هدم الأساس الديني للوحدة الوطنية الدين لله والوطن للجميع وأعوان الاستبداد الملكي رأوا فيه, بدورهم, عنصرا محتملا لضرب الوفد وتقليص نفوذه الفكري, وأبرز حلفاء السلفية الجديدة( محمد رشيد رضا, ومحب الدين الخطيب وبعض القيادات الأزهرية النافذة) يحتفون به, والنتيجة هي أن أول بروز سياسي( تحت غطاء ديني) للجماعة كان الدور الذي قامت به في استقبال الملك الشاب العائد من انجلترا ليتولي عرش أبيه بعد وفاة والده المستبد في23 أغسطس1927 وسرعان ما وصلت الجماعة حبال الود بينها ورجال الملك الجديد الذين ورثوا العداء للوفد من الملك القديم, خصوصا أن الوفد بقيادة النحاس حسم علاقته بالملك علي أساس دستور1923 المؤسس لدولة مدنية, ورفض تنصيب الملك الجديد تحت أي شعار سوي الدستور, وفي برلمان الأمة الذي أقسم علي الولاء فيه للوطن أمام ممثلي الأمة علي اختلاف طوائفهم الدينية والسياسية.وأعتقد أن هذه الفترة هي التي ظهر فيها الوجه السياسي للإخوان المسلمين سافرا, وتتابعت أفكار البنا في الظهور والصدام المباشر مع الأحزاب السياسية المعادية للاستبداد والمتفقة علي مبدأ الحكم المدني( خصوصا الوفد والأحرار الدستوريين). وأخذ البنا يلعب دور نصير الملك الشاب( المؤمن, الصالح) ويتحالف مع رجاله الذين بادلوه نفعا بنفع, وكان الصدام اللافت مع القوة الوطنية للوفد مع حادثة4 فبراير42, حيث قامت القوات البريطانية بمحاصرة القصر, وإجبار الملك فاروق علي تكليف النحاس بتكليف الحكومة, أو التنازل عن العرش, فقبل الملك صاغرا, وقبل الوفد مضطرا, ولاذ أنصار المحور والألمان بالتزام الصمت, واندفع الإخوان في تأييد الملك( الوطني, فضلا عن المؤمن والصالح) فقد كان في الموقف فرصة للمزيد من النفوذ, والإعلان السياسي عن الحضور بالعنف اللازم, وقد تكرر هذا الموقف من التحالف مع أبرز رئيس حكومة عرف بالديكتاتورية ومؤازرة الحكم الاستبدادي وهو صدقي باشا الذي لن ينسي له التاريخ أنه ألغي دستور1923 وفرض دستور1930 الذي رفضته القوي الوطنية فيما عدا الجماعة. وقد أبدع الممثل الأردني إياد نصار في إبراز دور حسن البنا( الشخصية الدرامية) داخل الإطار الزمني والموضوعي لهذه الحقبة التي اختارها وحيد حامد في تمثيل تحولات حسن البنا وتقلباته وصراعاته ومحاولات إقامته توازنا بين الديكتاتورية الشخصية والشوري الجماعية: الحس العملي والمنحي الانتهازي, الزهو والتواضع, لغة السياسة ولغة الدين, وبقدر ما حرص وحيد حامد علي الاختيار من تاريخ الجماعة, تاركا بعض ما يشينها لأنه لم يجد فيه ضرورة درامية فيما يبدو, فإن براعة إياد نصار التمثيلية, جعلته خير موح بأنواع التحولات والصراعات التي عاناها حسن البنا بوصفه شخصية قيادية استثنائية, وزعامة نادرة, لكنها شخصية إنسانية في آخر الأمر, لها إيجابياتها وسلبياتها التي تجعل منها شخصية بشرية ودرامية بامتياز.وتصوري أن الأحداث التي اختارها وحيد حامد من تاريخ الجماعة كافية دراميا, دالة, رغم أنه ترك ما كان يمكن أن يزيد الصدق التاريخي للمسلسل( مثل اغتيال سليم باشا حكمدار القاهرة, والعلاقة مع صدقي باشا, واتهام عبد المجيد عابدين بما يخل بالشرف والدين.. الخ) فالأهم في البناء الدرامي للمسلسل ليس إحصاء الحقائق التاريخية, وإنما أختيار أبرزها دلالة, وأقدرها علي توصيل الرسالة المضفورة بالفن, والتي يجسدها ابداع أصيل يبقي مهما اختلفنا معه أو عنه, وأبرز عناصر هذه الرسالة في تقديري ثلاثة: 1 الانحياز الكامل للتراث المعادي للعقلانية والاجتهاد المفتوح في الفكر الاسلامي العربي, مع احترام الشريعة, ورفض تقديم العقل علي النقل عند التعارض كما ذهب الإمام محمد عبده. 2 التحالف مع السلطة الاستبدادية تحقيقا للمصلحة( وليس أدل علي ذلك من التحالف مع صدقي باشا والسادات حين تشبه به). 3 معاداة الدولة المدنية ودعاتها وممثلي الفكر الديمقراطي وأنصار العدل الاجتماعي, مقابل انفتاح رأسمالي حر, لكن تحت شعارات وأقنعة دينية. وكلها عناصر تصوغ مبادئ علمية, لحمتها العنف وسداها السمع والطاعة, لا الشوري الحقيقية والاعتراف بحق الاختلاف. ولا غرابة في أن ينطبق درس الماضي علي الحاضر, ويلقي الحاضر الضوء علي احتمالات المستقبل.