في الفتوحات المكية يري الشيخ الأكبر ابن عربي: إن الحرف أمة من الأمم, مخاطبون ومكلفون. والحروف آخر الأمر وأوله آية تتوج رأس كل فن. وقوة الحرف من قوة الحلم.. هو ما يجسده الفنان في لوحته باحثا عن جمال يخصه, عبر مشاهداته المتأنية لمناظر تبدو حقيقية وربما تبدو متوهمة. الاحتفال والموسيقي والناس في لحظات صمتهم هناك خلف النوافذ, وذلك التيار الذي لا ينقطع من ذكريات دائمة محض ذكريات تكونت هنا, من معارفنا, ممن أحببناهم يوما, وهم يقفون علي درج سلم مستندين إلي درابزينه, ناظرين بابتسامة غامضة, وربما مندهشة لفنان يرسمهم.. نسوة سمراوات وبيضاوات يطمأنن علي حياتهن, وراءهن خلفيات من نوافذ يحيلها ضوء القمر إلي لون.. نسوة في الغالب حزاني ومنكسرات الخاطر, قادمات من حواري متربة وقد نفضن أيديهن من الأمل. أمضي حسن سليمان يرسم تلك النسوة طوال عمره.. وياللعجب! أن تري علي كلام تم إنجازه اسم عبلة الرويني.. انتبه.. ثمة إثارة للدهشة.. هنا العين صاحية ونافذة.. ولسوف تذهب إلي بعيد.. حيث غير المتوقع.. وحيث نري بشكل أفضل.. ونقبض عبر ما نراه علي ما يثير الدهشة. لسوف تذهب بك إلي غير ما تعرف.. ربما هناك عدة تخوم بيسوا العظيم الذي يقول: من خلال سطيحة مقهاي أنظر بارتجاف إلي الحياة, أبصر منها القليل, ثمة ضوء يوضح لي روح الأشياء, مثل تقليب الرماد, وغامض مثل اللحظة التي لما تتحول إلي فجر. عبلة الرويني كاتبة تقلب في روح الأشياء دائما, باحثة عن نص تكتبه, يخصها هي ويشير إليها, كانت أمها دائما ما تخبرها إن كل أصدقائك من المجانين, وهم هكذا بالفعل, فأنا أعرف أغلبهم منذ زمن قديم, وهي تحبهم وتغضب منهم كثيرا لكنها أبدا لم تستغن عن أحدهم! وكتابها البديع نساء حسن سليمان الصادر عن المجلس الأعلي للثقافة كتاب عن أحد هؤلاء البهاليل الذين قايضوا علي أعمارهم بالفن, وبالسعي نحو امتلاك لؤلؤة المستحيل, ولأنه بهلول بحق فقد أمضي عمره كله يتأمل الوجوه والبحر والفخار والوردة ونسوة الحارات والأبواب المشرعة علي العتمة والنورج والعمل في الغيطان والإوز والفلاحات واللون الرمادي, سعيا للتحديق في المنطقة الغامضة من الروح ليتعرف علي ألم الإنسان ليعبر عنه بلونه الرمادي الخالد. قليلة هي الكتب التي تثير فيك الدهشة, وتدفعك للتأمل, ومن ثم محاولة الوصول إلي جوهر الأشياء.. وكاتبة تبحث عبر نفسها عن الاتزان وقوانينه والإيقاع والجاذبية.. والاتزان ليس فقط قانون الطبيعة, بل قانون اللوحة أيضا. أمضي حسن سليمان عمره يبحث عن خصوصية الموديل!! وينشغل بالفورم والنسب الدقيقة بالهارموني, بذلك المعني الأعمق لفن لوحة التصوير ومدها بكل العناصر المكونة للوحة.. هكذا تري الرويني حيث ترصد بوعي الشاعرة رحلة حسن سليمان مع الموديل.. مع نساء رسمهن عاريات ثم يقوم بعد ذلك بتغطيتهن بسبب مواضعات الواقع الذي يضطهد حرية الفنان. يبحث الفنان عن مثاله, والنموذج الشعبي للمرأة المصرية الخالدة في تكامل أعضائها وكأنها أحد تماثيل رودان أو هي اللوحة الممجدة في الحياة والفن. تتبع عبلة الرويني معاناة الرسام مع الموديل ليستكمل لوحته.. يدور في شوارع مدينة زحمة.. من ميدان لحارة.. ومن شارع لسوق.. ربما التقي بها هناك.. ربما تكون فتاة الجمالية التي ثبتها في العديد من الصور.. كانت تعمل كوافيرة يخبرها باسمها, وبعد أيام ينسي الاسم فيختلط بهن جميعا.. سلوي بسناء, وفاطمة بعديلة, ورمزية بتهاني.. الاسم عند الفنان لا معني له.. المعني كله يكمن في الصورة التي إذا تحققت محيت الأسماء وبقي الفورم, وضوء النافذة, والمشهد علي البحر المفتوح حتي السموات العلا. لا يفتتن الفنان بفتاة الإعلان, ولا بالمانيكان, ولا بالراقصة المبتذلة.. الموديل الحقيقي نموذج آخر, هي الجسد الكامل الذي يفصح عن نفسه لأنها عبر تكوينها تمثل وجهة نظر الفنان, لأنها آخر المطاف تقول رأيا في الحضارة. تطلق عبلة الرويني الصفات علي موديلات حسن سليمان.. تدفع الجسد إلي دائرة التعريف, إلي الرؤيا.. إلي الحفاوة بالتكوين إرث قيم الجمال منذ أجدادنا الفراعنة الذين قدسوا الجسد واحتفظوا به كاملا عبر السنين. من فتاة الجمالية ياسمين وعطيات والراقصة الأخري التي أقام لصورها معرضها كاملا خفايا جمال الجسد الطالع عبر الإيقاع والحركة ناحية الضوء الذي يشبه الموسيقي والشعر. استفزته يوما سيدة أرستقراطية من طبقات زمان.. العجائز الرشيقات من يحملن بدواخلهن سنوات مجدهن الغابر شخطت فيه: فنان لا يعرف إلا العاهرات والخادمات والنساء البلدي. انفعل الفنان وغضب, ورسمها في45 دقيقة فوق مساحة من القماش110*80, يقول رأيه في اللوحة, في الموديل المدعي, يعكس من خلال الضوء واللون تجسيد ملامح السيدة, وإحساسها بالتعالي, والإمساك بلحظة الحزن علي عمر علي وشك الزوال. تنتبه عبلة الرويني إلي نساء حسن سليمان.. لقد كن دوما نسوة من جماعات المدن المغمورة.. أهمهن عطيات التي تركت بصماتها علي تجربة الفنان منذ البداية, منذ السنة الثانية بكلية الفنون الجميلة.. كانت موديلا تمنح الفنان الثقة بما يرسم. وكانت سلوي البربرية.. نصفها سوداني والآخر صومالي.. يقول عنها الفنان: كانت رهيبة, حين خلعت ملابسها لكي يرسمها علقت ساخرة شوية عضم علي ما قسم, إلا أن الفنان جمع العظام علي اللوحة في أبهي الأشكال, وأجمل المعاني, والكل كان له الحضور الآسر.. لقد أعاد تشكيل الموديل في خطوط التناسق والانسجام.. لكن سلوي أطارت عقل حسن سليمان بفظاظتها وعدم التزامها, وقلة صبرها فطردها فتلقفها العديد من الفنانين ولم تخشع وتهمد إلا بعد أن أخرج لها فنان آخر سكينا صارخا في وجهها: اجلسي هادئة وإلا ذبحتك.. بعد ذلك عقلت وانهدت وصوروا لها أجمل الصور. يتجاوز نص عبلة الرويني النقد وينتمي للإبداع الفني, واللغة بحثا عن السيدة, هي الشعر وسقف الدنيا.. والشاعرة كتبت نصا عن الصور قدمت من خلاله نسوة نعرفهن بمجرد اقترابنا منهن: جالسات أمام النوافذ ينظرن حيث البحر والشراع ومناطق تجوس بها الأحلام ولحظات من الصحو, جالسات بفساتين القماش الرخيص ينتظرن أياديهن علي مساند الكراسي أو في حجورهن.. ونساء تعطينا ظهورهن فنتأمل نسب الجمال ومقاييس المتعة المتخيلة عبر الرمادي والأسود والبرتقالي والأحمر.. وتلك ذات العقد والقرط التي تحني رأسها غير ناظرة لشيء. عبر كل هذه المعاني التي استخرجتها عبلة الرويني من نص الرسم, وعبر إبحارها مع نسوة حسن سليمان كانت صحبتها طيبة وبديعة مثل صحبة ديوان من الشعر البديع.