مازال المجتمع الثقافي يثير الكثير من الحيرة.. وهي الحيرة التي تؤكدها الأحداث حولنا, ليس في السنوات الأخيرة في الحكم الذي صدر أخيرا في قضية د. جابر عصفور وحسب, وإنما لأكثر من نصف قرن إلي الوراء, وهي الفترة التي يمكن أن تبدأ من حريق القاهرة_ يناير1952 وإلي محرقة بني سويف_2005_ إلي اليوم; سنوات كثيرة. يغيب فيه المثقف أو يجنح إلي الغياب, فبين هذين الحادثين الكثير من الأحداث التي تؤكد غياب المجتمع الثقافي وبالتبعية غياب هذا المثقف العربي الفاعل.. والفاعل مازال مجهولا! ولنضرب مثالا واحدا يلفت النظر إليه بشدة العدد الأخير من مجلة ديوان الأهرام_ الذي صدر منذ أيام_ حين تتحدث مصر عن نفسها في هذا الربط الفاعل بين حريق القاهرة و'..الفاعل مازال مجهولا!',هكذا بالحرف- هذا هو العنوان الذي يمكن أن يفسر به الكثير من أحداث حياتنا اليوم- فعلامة التعجب هنا تشير إلي ما يرتبط بغياب هذا المثقف_ الرمز في هذا الصدد خاصة في التنقل بين الجغرافيا والتاريخ.. وأكثر ما يلاحظ هنا دلالة الربط في الحريق بين مصر قبل نصف قرن إلي اليوم حيث دار الحريق, حيث نقرأ في مطلع هذا الحريق أنه ابتدأ من ميدان إبراهيم باشا( الأوبرا) شارع فؤاد(26 يوليو) شارع إبراهيم باشا( الجمهورية).. شارع توفيق( أحمد عرابي) شارع الملكة( رمسيس) ميدان الإسماعيلية( التحرير) شارع الخديو إسماعيل( التحرير).. شارع محمد علي( القلعة) فلا نحتاج إلي جهد كبير حين نمضي مع الجغرافيا والتاريخ.. الزمان والمكان في آن واحد.. علي المستوي الرأسي والأفقي.. وهو ما نتمهل عنده أكثر... ** فعلي المستوي الرأسي نستطيع أن نلاحظ عددا كبيرا من الأحداث التي يغيب فيها هذا المثقف, رغم هول هذه الأحداث وخطورتها, ويمكننا أن نستعيد التوصيف عن الفاعل المجهول( مازال الفاعل مجهولا) ونحن نهبط من حريق القاهرة إلي حريق بني سويف ونحن نسأل عن غياب هذا المثقف في أحداث كثيرة من مثل( كارثة قطار الصعيد بمصر وكارثة العبارة المصرية ثم حريق مجلس الشوري وحريق المسرح القومي وكارثة المقطم) وفي القلب من هذا كله محرقة بني سويف; فمازالت أصداء هذه الكارثة قائمة حتي اليوم فيما يثار في الصحف الورقية وبالعديد من المواقع الرقمية( فالذين صدرت الأحكام بإحالتهم إلي المعاش من موظفي هيئة قصور الثقافة. فوجئ المتابعون بأنهم منتظمون في عملهم. وفي مواقعهم نفسها. بل صدرت قرارات بالتجديد لبعضهم.. وأرسلت خطابات إلي كل من وزير الثقافة الفنان فاروق حسني والجهات القضائية تفيد أن الهيئة نفذت أحكام القضاء. أي أحالت للمعاش من أمرت المحكمة بإحالتهم..) ورغم موقف وزير الثقافة الإيجابي الواضح هنا مازال السؤال قائما.. مازال الفاعل مجهولا.. مازال المثقف المصري غائبا ومغيبا.. نستطيع أن نضع تحت هذا كله العديد من الخطوط السوداء ونحن نسأل عن غياب دور المثقف أو غياب المجتمع الثقافي. وهو ما يعبر بنا إلي المستوي الأفقي.. ** حين نتمهل عند الوعي الذاتي لهذا المثقف, نلاحظ أن هذا الوعي الذاتي غائب في الإعلام الفضائي أو السيبيري أو_ حتي_ في الإعلام الورقي إذا جاز لنا أن نطلق علي هذه الصحف والدوريات التي يشارك فيه المعنيون بالأمر من المثقفين.. لقد أحسست بهذا الغياب المحزن للمثقف علي صوت الشيخ عكرمة صبري_ مفتي القدس الأسبق_ وهو يزور القاهرة أخيرا حين يعيب علي مثقفينا ترديدهم مفاهيم عامة خاطئة تردد علي أنها المفاهيم الصحيحة, وينقل هذا الموقف المحير حين ينقلون_ أي مثقفينا- مصطلحات ترددها أجهزة الصهيونية بدون فهم ولا إدراك لماذا؟! يسأل ويجيب: إنهم يصفون- وهنا يعلو صوت الشيخ عكرمة بغضب-إنهم يصفون حائط البراق بأنه حائط المبكي, و مستوطنة' أبونيم' بأنها مستوطنة' حرقونه'.. هل هذا معقول؟!, ونترك حيرة مفتي القدس لنعود إلي هذا الكم المخيف الذي يتردد في صحفنا, هذا الكم من ترديد المصطلحات الصهيونية التي توضع لنا بشكل بسيط وبدون فهم فيرددها مثقفونا وإعلاميونا أو علماؤنا الأجلاء( هكذا!) في كتاباتهم وأحاديثهم; وصف حائط المبكي بدلا من المصطلح الصواب: حائط البراق وأرض الميعاد بدلا من أرض فلسطين و المطالب الفلسطينية بدلا من الحقوق الفلسطينية.. والأكثر من هذا أن نطلق علي الحارة المعروفة هناك اسم' حارة اليهود' بدلا من أن نطلق الاسم الحقيقي قبل أن تهدم وتتحول من اسم عربي إلي اسم يهودي باسم حارة المغاربة; هل هذا معقول, ويتساوي في هذا الفهم الخاطئ عدد كبير من أبنائنا في الإعلام والثقافة الورقية والرقمية مما يصل بنا إلي أقصي حالات التعجب والدهشة.. هل هذا معقول؟!. لم أستطع أن أتوقف وأنا أردد ما يحدث لمثقفينا ومجتمعنا الثقافي الذي غاب فيه الوعي بما يحدث وحضرت فيه ألوان عديدة من الأمية الثقافية بشكل يدعو إلي الألم, فإذا كان مثقفونا يجب أن يكونوا أكثر وعيا, وهو ما يحدث العكس الآن, فكيف نلوم أبناءنا وأبناء شعبنا وشبابنا أمام الوسائل الورقية والشاشات الفضية والفضائية والسيبرانية.. رحت بيني وبين نفسي أردد إذا كان مثقفونا بهذا الوعي الغائب فما حال مجتمعنا الثقافي؟.. وإذا كان مجتمعنا الثقافي بهذا الوعي الزائف.. فكيف يكون حالنا العام؟, ثم, كيف يكون مستقلبلنا؟.. أين المثقف العربي الحق؟ هل مازال الفاعل مجهولا حقا؟ صمت, وحملت أوراقي.. وذهبت وأنا ألقي الورقة الأخيرة إلي بعيد.. الورقة الأخيرة: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب