ألقيت نظرة بطيئة, أخيرة, علي كل هذه الأوراق والمستندات: دعوي.. دعاوي, حكم.. أحكام ثم إلزام بطلبات المدعي ومصاريف طلبات المدعي وأتعاب المحاماة.. إلي غير ذلك مما نجده في الحكم في هذه الدعوي.. مع هذا فنحن هنا لانعرض للحكم باي شييء لكن لقضية حرية التعبير وحدود حرية التعبير. لكن ماذا يحدث حقا؟ والقضية أيها السادة_ ونحن نعرفها جميعا_ هي الدعوي التي كانت قد رفعت من' داعية إسلامي' ضد مثقف و'أستاذ بكلية الآداب' وقبلها ضد شاعر معروف, واستمرت شهورا وعدة سنوات, وانتهت بعد الاطلاع علي الأوراق وسماع المرافعة والمداولة قانونا_ كما أعلن أخيرا- بهذا الحكم السالف.. واحتراما لحكم القضاء المصري النزيه, ونحن نؤكد عليه هنا.. فإن إثارة قضية وإلزام المدعو عليه بحكم كما أعلن أخيرا يضع بين أيدينا سؤالا مهما, سؤالا ليس جديدا, سؤالا لا يعرض لطبيعة الحكم بقدر ما يثير الأسئلة في مجتمعنا الذي يشهد من سنوات طويلة, ومايزال, مخاضا طويلا ينتهي إلي تساؤلات كثيرة لا نجد إجابة عنها من نوع: أين المجتمع الثقافي مما يحدث حولنا؟ اين هو المثقف ؟ وهنا ينفرط اكثرعقد التساؤلات: من هو هذا المثقف- العالم- الذي يدافع عن قضايا مجتمعه وفي الوقت نفسه يكون واعيا لحرية التعبير, وقبل هذا وبعده, حدود حرية التعبير في مجتمع ما زال يحمل سمات( الهوية) المتبلورة في معادلة الأصالة والمعاصرة في الوجدان العربي؟ ثم من هو عالم الدين الآن, فالمعروف أن' رجل الدين' صفة لشخصية غير كائنة في الواقع العربي, ليس لدينا رجل دين أو' مؤسسة دينية' وإنما'عالم' ومركز علمي, وهي صفة تحمل في مضمونها الحضاري سمات' عالم الدين' الحضارية كما قدمته لنا الينابيع والتفريعات التراثية العميقة التي تبلورت عبر عقود جميعا, لكنها تترجم في السياق الأخير في الوعي بالحاضر انطلاقا من معاني آيات كثيرة: -( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) -( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) -( إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) واذا كان المثقف كما نعرف الآن يمثل هذا الرمز الواعي لعالم الدين_ كما نعرفه في تراثنا- فإن المثقف الآن أصبح هو هو عالم الدين_ بالمعني الرمزي وليس بالمعني الديني.. وأصبح هو المسئول عن التغيير كما يجب أن يكون.. معني هذا أننا يجب أن نتعامل مع هذا المثقف المعاصر علي أنه العالم التنويري الكبير, الذي يمكن أن نجده في الجامعة_ حيث ينتمي هذا الأستاذ_ كما نجده في الأزهر الشريف_ او حتي كما نجده في المراجع القضائية_ ما نجده في هذه المحكمة التي أخرجت لنا هذا الحكم, ثم نجده في أي مكان يمكن أن يترجمه المعني العميق للآية المهمة عن الدور المأمول للمثقف, ونقصد به التغيير( لايغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) بيد أن العود إلي الحكم الذي صدر أخيرا يثير أسئلة أخري كثيرة كأن نسأل: أين هو المثقف الفاعل حقا.. المثقف الذي يعي التغيير وحدود التغيير ويبادر بالتغيير؟ إن الاجابة عن هذا السؤال تصبح أكثر صعوبة حين نعود إلي الواقع المعاصر في بدايات الألفية الثالثة, فإذا بنا أمام واقع يؤكد أن الأمية الهجائية لدينا ترتفع إلي درجات عالية, بيد أن الأمية الثقافية_ وهو ما يهمنا هنا- تشير إلي أن المتعلمين أو المثقفين عندنا_ بالمعيار السابق_ انكمشوا إلي نسبة ضئيلة جدا; ومع التنبه إلي ما تقدمه لنا المراكز البحثية والبيانات الرسمية نعرف أن متعلمينا ممن يرتبطون بالدرس والإعلام لا يزيد عددهم علي عشرة بالمائة بعضهم آثر نمطية المثقف الصامت أو المهادن وبعضهم فضل الهجرة إلي الخارج بينما آثر البعض الآخر الهجرة الي الداخل, إلي اجهزة الشات والمدونات والألعاب.. إلي آخر مظاهر هذا العالم الاليكتروني... ليتبقي عندنا نسبة ضئيلة من المثقفين_ بالمعيار الحضاري الذي أشرنا إليه_ وهو المعيار الذي يسلمنا إلي مثل هذه الحيرة التي نواجهها في مثل ذلك الحكم الأخير, ومثل هذه المحكمة التي راحت تحكم بالإلزام_ الحزم القاطع_ علي أحد المثقفين في وقت غاب المثقف الفاعل في المجتمع بالفعل, أو غاب المثقف الذي نستطيع أن نعود معه إلي الأسئلة التي سبق وطرحناها: أين المجتمع الثقافي مما يحدث حولنا ؟ وهنا ينفرط اكثر عقد التساؤلات: أين هو أستاذ الجامعة ؟ أين هو المثقف أو العالم بالمفهوم العصري ؟ أين هو الداعية الإسلامي بالمفهوم العصري؟ وقبل هذا كله: اين هو العالم فيمايحدث لنا وحولنا؟! أسئلة كثيرة أثارها هذا الحكم الأخير بالجلسة المنعقدة منذ ايام قليلة' باسم الشعب'!!.. الورقة الاخيرة: يا معشر العلماء يا ملح البلد... ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟