تردد أخيرا أن هناك دراسة تجري لبحث إمكانية منح الشركة المصرية للاتصالات رخصة تشغيل شبكة محمول افتراضية وهذا التوجه يثير جدلاوتساؤلات ساخنة متعلقة بقطاع الاتصالات, ومرجع الجدل والتساؤلات في تقديري أن اللجوء إلي نموذج شبكات المحمول الافتراضية واستخدامه كأداة من أدوات التعامل مع قضايا القطاع الشائكة يبدو تعاملا ناعما مع قضية خشنة, يحمل في طياته احتمالات تقديم حلول مؤثرة لمعضلات وتوترات صعبة, كما يحمل بالقدر نفسه احتمالات فشل سريعة موجعة, وتساوي الاحتمالين هو ما يجعل التساؤل واجبا, والمناقشة فريضة. قبل المناقشة نشير في عجالة إلي المقصود بنموذج شبكات المحمول الافتراضية وحدود تطبيقه عالميا, فشبكة المحمول الافتراضية هي شبكة اتصالات محمولة لا تملك طيفها الترددي الخاص بها, ولا تمتلك بنية أساسية خاصة بها, ولكنها تشتري دقائق من المكالمات من مشغل الاتصالات المرخص له والمالك للطيف الترددي والبنية التحتية, ثم تعيد بيعها للعملاء تحت اسم وعلامة تجارية مختلفة خاصة بها. وبالتالي فشبكة المحمول الافتراضية تمتلك فقط علامة تجارية وقنوات توزيع وغيرها من السمات والخصائص الخاصة بإعادة بيع الخدمات المحمولة التي تجعل العميل النهائي أو المشترك يشعر بأنه يتعامل مع شبكة محمول مستقلة, وفنيا يتم تشييد وبناء الشبكة الافتراضية عبر الشبكات الأصلية من خلال تقنيات وإعدادات معينة, تشبه إلي حد ما الإجراءات المتبعة في إنشاء الشبكات الافتراضية الخاصة داخل الشبكات الأرضية. بعبارة أخري هي أقرب إلي وكيل يشتري خدمات الشبكة الأصلية بالجملة ويعيد بيعها للجمهور بالتجزئة, ولكن مع بعض الإضافات والتعديلات, فمثلا نجد العديد من شبكات المحمول الافتراضية الكبيرة أقامت بنية أساسية للشبكة الذكية المحمولة من أجل تسهيل تقديم الخدمات ذات القيمة المضافة, وبهذه الطريقة, تستطيع التعامل مع البنية الأساسية القائمة مثل معدات الترددات اللاسلكية كسلعة, مع تقديم خدماتها الذكية والمتقدمة القائمة علي استغلال بنيتها من الشبكة الذكية. والهدف من تقديم الخدمات مضافة القيمة التميز مقابل مشغلي المحمول التقليديين, مما يتيح لها اكتساب العملاء وعدم الانزلاق للمنافسة علي السعر فقط. والشبكات الافتراضية ليست وليدة اليوم, بل موجودة منذ سنوات وتزايد عددها طوال الوقت, ففي فبراير2009 كان في العام حوالي400 شبكة محمول افتراضية نشطة تشغلها نحو360 شركة, وهذه الشبكات موزعة علي مجموعتين من البلدان الأولي حققت فيها وجود مستقر وناجح وتشمل ألمانيا وهولندا وفرنسا والدنمارك والمملكة المتحدة وفنلندا وبلجيكا والبرتغال واستراليا والولايات المتحدة, والثانية مجموعة البلدان التي لا تزال حديثة العهد بها وفي بداية إطلاقها وتشمل روسيا واسبانيا وايطاليا وكرواتيا والبلطيق والهند وشيلي وإسرائيل ومقدونيا وايرلنداوكوريا الجنوبية, وأخيرا اعلنت بعض دول الخليج مثل الإمارات وعمان عن التوجه نحو هذا النموذج. والسؤال الآن: إلي أي حد يتناسب الوضع السائد حاليا في قطاع الاتصالات في مصر مع نموذج شبكة المحمول الافتراضية؟ يضم قطاع الاتصالات المصري شأنه شأن أي قطاع اتصالات مماثل بأي دولة مجموعة من الأطراف هي: الجهة الرسمية المسئولة عن وضع الرؤي ورسم السياسات وتنفيذ الخطط التي تعكس مصالح المجتمع وتوجهاته واحتياجاته, وهي في الحالة المصرية وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. موفرو خدمة الاتصالات المحمولة في صورتها الصوتية أو ما يصاحبها من خدمات بيانات أيا كان نوعها, وهم في هذه الحالة الشركات الثلاث التي تشغل شبكات المحمول بالبلاد. الشبكة أو الشبكات الأرضية المسئولة عن التليفون الثابت والتي تعتبر الجسم الأساسي الذي تعمل شبكات المحمول علي أطرافه ومن خلاله وهي هنا المصرية للاتصالات. المشتركون في خطوط التليفون المحمول وخدماته المختلفة بالشركات الثلاثة, والذين فاق عددهم الخمسين مليونا حتي الآن. الجهة المنظمة للعلاقات بين أطراف القطاع أو السوق, والتي تتولي بموجب القانون مراقبة وضبط توازن المصالح بين كل طرف وآخر, وفقا لما تقره التشريعات والقوانين الحاكمة والمنظمة للقطاع, وهو في هذه الحالة الجهاز القومي لتنظيم مرفق الاتصالات. وفي كل الأحوال والبلدان لا تسود حالة من التوافق والاتساق الكامل بين مطالب وقدرات وواجبات الأطراف الخمسة, بل هناك دوما حالة من الاختلاف والفرقة فيما بينها, بحكم تعارض المصالح, لكن مستوي الفرقة والاختلاف يختلف من بلد لآخر, طبقا لدرجة النضج في التوازنات القائمة بين هذه الأطراف, وهي توازنات عادة ما تكون انعكاسا لمستوي النضج التنموي والاجتماعي والديمقراطي السائد بالمجتمع. وحينما ننظر إلي خريطة العلاقات بين الأطراف الخمسة حاليا في مصر نجد أن درجة الفرقة والاختلاف بينها ترتفع إلي مستويات تتجاوز أحيانا المستوي الطبيعي, لتصنع للقطاع برمته وجها خشنا صلبا ومعقدا, ويدلنا علي ذلك أن هناك ما يلي: - قطاع كبير من المستهلكين والمشتركين غير راض, ويري الأسعار أعلي والخدمات أقل سواء علي مستوي الجودة أو التجديد, ويري أنه في حاجة إلي كيان مملوك ملكية عامة يقدم خدمة المحمول ويعمل كند حقيقي أمام جموح الشبكات القائمة. - موفرو الخدمة ليسوا علي وفاق كامل مع جهاز التنظيم, بل بينهما أمور عالقة كثيرة, وانظر مثلا إلي ما بين الجهاز وموبينيل, هذا فضلا عن التنافس الشرس فيما بين بعضهم البعض والذي يدار كثيرا بطريقة تجارية محضة, تتراجع أمامها اعتبارات الحفاظ علي الوضع ككل كصناعة حاضنة لجميع الأطراف, يضاف لذلك أن الشبكات الثلاث لا تخفي ضيقها وعدم قبولها لظهور شبكة رابعة من حيث المبدأ, ومملوكة للمصرية للاتصالات علي وجه الخصوص, علي اعتبار أن هذا السيناريو سيخل بالمنافسة لصالح المصرية وسيدخل إلي الحلبة منافس جديد هم في غني عنه. - في المقابل تواجه الشبكة الأرضية تحديات عنيفة تتعلق بتراجع الدخل وانكماش عمليات التوسع, ثم التحدي الجديد بعد استحواذ شركات المحمول علي كبريات شركات الانترنت سعيا إلي منافذ للاتصالات الدولية عبر اتصالات ببروتوكول الانترنت, وكل هذه التحديات تجعل لديها رغبة وربما احتياج ملح للحصول علي حصة من سوق المحمول, وتري أن حصتها الحالية في إحدي الشبكات لم تعد كافية لتحقيق طموحاتها, ويعزز هذا تعاطفا جماهيريا ملحوظا مع طموحاتها. - الجهة التنفيذية التي ترسم السياسات يراها الكثيرون لم تحسم أمرها بوضوح فيما يتعلق بالمسار المستقبلي بعيد المدي للقطاع. - الجهاز التنظيمي يسعي لمزيد من الاستقلال والقوة, ويصطدم في ذلك بصعوبات جمة, سببها توازنات القوي داخل البلاد والمجتمع ككل, فضلا عن كونه يعرف جيدا صعوبة خوض معركة إصدار رخصة جديدة في ظل الأوضاع القوية للمشغلين الحاليين. هذه الملامح هي التي تجعلنا نقول بخشونة الوضع القائم بقطاع الاتصالات, وبأن الأخذ بنموذج الشبكة الافتراضية الخاصة سيوفر فقط تعاملا ناعما, يمسح بلطف علي وجه هذا الوضع الخشن ولا يغوص بداخله, ولا يحدث به تغييرا نوعيا, وذلك للأسباب التالية: أن هذا النموذج لا يضع المصرية للاتصالات في وضعها الطبيعي كمشغل لشبكة محمول تملك طيفها الترددي وبنيتها التحتية وتنافس مع الشركات القائمة من خارجها ولا تبيع من باطنها, بل سيجعلها مجرد وكيل أو بائع جملة للشبكات القائمة, وتقول الخبرة العالمية أن الشبكات الثابتة الأم كالمصرية للاتصالات- ليست هي في العادة من يسند لها القيام بهذا الدور, بل يسند إلي شركات أخري بخلاف مشغلي شبكات المحمول والثابت, ومن ثم فإسناد دور المشغل الافتراضي لا يحقق مصالح المصرية للاتصالات ولا يعطيها حقوقها في المنافسة كطرف أصيل. ترتيبا علي ذلك فإن هذا النموذج لا يوفر للمستخدمين والمشتركين ما يطمحون إليه في منافس قوي مملوك ملكية عامة وقادر علي تحقيق مزيد من التوازن في السوق, وضبط ما يراه الجمهور العريض جموحا وشططا من الشركات القائمة. - هذا النموذج لا يضيف لجهاز تنظيم الاتصالات أرضية جديدة للحركة المستقلة ولعب دوره كضابط إيقاع حقيقي لتوازنات السوق, لأن الشركة الجديدة كما قلنا ستعمل من باطن الشركات القائمة. لكن هل يعني هذا أن بديل الشبكة الافتراضية بلا قيمة أو كله خطأ؟ بالطبع لا, فهو يحمل قيمة ومزايا بصورة أو بأخري, فلو جري التخطيط والتنفيذ له بعناية يمكن أن يوفر بديلا مؤقتا يلطف الأجواء ويتعامل بمرونة مع تحديات الوضع القائم, فهو يلبي جزئيا طموح الشبكة الأرضية في امتلاك شبكة محمول دون أن تتصادم مع الشبكات القائمة, لأن الشبكة التي ستنشأ لن تشاركها الطيف ولن تناطحها ببنية تحتية جديدة, ومن ناحية أخري يوفر فرصة لجهاز التنظيم لإصدار ترخيص يوفر بديلا مرحليا أو جزئيا يعزز المنافسة ويلبي قدرا من الطموح الجماهيري, بعبارة أخري فإن هذا النموذج سيوفر مساحة إضافية للتعامل مع بعض القضايا الشائكة لدي الوزارة والجهاز, ويوفر مساحة أمام المشترك لتفادي بعض ممارسات شركات المحمول التي لا تعجبه, كما سيوفر قدرا من التهدئة لدي الجماهير الطامحة إلي بديل يحبون ويحبذون أن يكون مملوكا ملكية عامة وليس خاصة استثمارية. وإذا ما تصورنا جدلا أن حالة القطاع الآن وعلاقات أطرافه أشبه بصخور خشنة مليئة بالنتوءات, تدور معا في اتجاهات متعاكسة كالتروس وتحتك فيقضم بعضها البعض, فإن شبكة المحمول الافتراضية ستعمل كالمادة الزلقة التي تجعل أطراف الصخور تنزلق فيسهل احتكاكها, لكنها لن تقضي علي النتوءات والتشوهات الأصلية المسببة للاحتكاك والتصادم, ولن تحقق انسجاما كاملا في الحركة أو تخفيضا حقيقيا في عدد وحدة الاحتكاكات.