لا أظن أنني حرصت علي متابعة دراما تليفزيونية مثلما حرصت علي متابعة مسلسل الجماعة الذي لا يزال يثير نقاشا متعدد الأبعاد واستجابات متعارضة في اتجاهات متعددة, فالمسلسل يدور حول تأسيس جماعة الإخوان المسلمين التي يعدها كثيرون أخطر حزب سياسي يهدف إلي تأسيس دولة دينية, تكون بداية لنوع جديد من الخلافة الإسلامية التي تجاوز الأقطار والقارات وهي جماعة ينطوي شعارها علي دلالات العنف التي لا يخلو منها السيفان المتقاطعان, تحت شعار وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. وهو شعار يردنا إلي آية قرآنية حقا, لكن عموم دلالته تنصرف إلي كل قوة أو تيار يعوق أهداف الجماعة الأساسية التي جعلت الجماعة في حالة عداء دائم مع كل الحكومات المصرية, ابتداء من عهد الملك فاروق, مرورا بعهدي عبد الناصر والسادات, وانتهاء بعهد مبارك ورغم كل شعارات التخييل الديني للجماعة, مثل الإسلام هو الحل أو نفي الصفة الحزبية عن الجماعة, فإن الهدف السياسي للجماعة يظل راسخا, لا يفارق تأسيس دولة دينية, تديرها صفوة تسوس غيرها, وتتحكم في كل التيارات المخالفة لها بتأويلات دينية, لا تفارق الهدف السياسي للجماعة التي أصبحت مدعومة بمؤسسات اقتصادية ورأسمالية ضخمة, عابرة للقارات, قادرة علي التغير والتواؤم مع زمن العولمة. وعندما يكون هناك مسلسل تليفزيوني عن هذه الجماعة فلابد أن تنجذب إليه الأعين, وتتوجه صوبه الأذهان بأقصي درجات الاهتمام, خصوصا حين يدور المسلسل عن المرحلة التاريخية لتأسيس الجماعة علي يد حسن البنا سنة1928 في مدينة الإسماعيلية التي كان يعمل فيها مدرسا, قبل أن ينتقل إلي القاهرة مع الجماعة التي لعبت ولا تزال تلعب دورا بالغ الخطورة في الحياة السياسية المصرية, خصوصا أن الفترة الزمنية التي يغطيها المسلسل, تبدأ من طفولة حسن البنا, وتنتهي بموته المعنوي الذي يتمثل في انفضاض الجميع من حوله, بعد أن اغتال التنظيم السري للجماعة محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء الذي أصدر قرار حل الجماعة, فقامت الدنيا ولم تقعد, واضطر حسن البنا إلي إدانة القتلة الذين وصفهم بأنهم لا إخوان ولا مسلمين ولكن الإدانة لم تنفع حسن البنا في شيء, فقد انفض من حوله الجميع, في نوع من الاتهام الذي أجمع عليه الخصوم والأنصار, وكان بمثابة حكم بالإعدام المعنوي الذي سبق حادثة اغتياله في الثاني عشر من فبراير1949, بعد أشهر قليلة من اغتيال النقراشي في الثامن والعشرين من ديسمبر1948 وكان اغتيال البنا في عهد حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا, وفي أعقاب جرائم اغتيال قامت بها الجماعة التي انطوي شعارها علي معني العنف القمعي, ولا يزال, ولذلك ظلت الصفحة الأخيرة, في فترة تأسيس الجماعة فترة دامية, مقترنة بالإرهاب الذي مارسته الجماعة باغتيال أحمد الخازندار وكيل محكمة الاستئناف في الثاني والعشرين من مارس1948 وبعد اغتيال اللواء سليم زكي حكمدار العاصمة في الرابع من ديسمبر1948, وهو الأمر الذي أعقبه قرار النقراشي رئيس الحكومة بحل الجماعة في الثامن من ديسمبر1948, بعد أربعة أيام فحسب في دراما الدم التي اختتمها إرهاب الإخوان باغتيال النقراشي الذي كان بداية نهاية حسن البنا معنويا قبل أن يكون ماديا. ولم يكن من الغريب أن تمارس الجماعة هذا العنف بمجرد أن عرفت عن تقديم المسلسل, حتي من قبل أن يري المسلسل أحد أو يعرضه التليفزيون وقد تحركت كتائب الردع الإخواني, وقامت بشن حملة هجوم علي وحيد حامد لترويعه معنويا, والتأثير عليه أثناء كتابة المسلسل, باستخدام العنف المعنوي, والردع اللفظي وكان هذا الموقف المسبق تجسيدا عمليا لإيمان الجماعة بالديمقراطية التي تناصبها العداء بوصفها إحدي لوازم الدولة المدنية الحديثة وعندما عرض المسلسل, وانتهت حلقاته لم تكف كتائب الردع الإخوانية عن الهجوم, وتوجيه العديد من الاتهامات الباطلة, في موازاة ما أعلن عنه من عزم الجماعة علي إعداد مسلسل مضاد وهو أمر طريف لو كان صحيحا, ويثير السؤال عن كيفية وإمكان الفرار من وقائع تاريخية ثابتة, منها حوادث الاغتيال, والعلاقة بسلطات الاحتلال البريطاني, والدعم السعودي عن طريق الشيخ محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب.. إلخ ودع عنك السؤال عن قيام جماعة دينية بعد عشر سنوات من ثورة1919 صاحبة شعار الدين لله والوطن للجميع باستبدال الشعار القديم وجعله الدين والوطن لله والإسلام دين ودولة وتكرر الدعوة إلي الخلافة التي أصبحت من بقايا الماضي بعد سقوطها في تركيا, وفي سياق محاولات استعادتها, وتطلع كل من الملك فؤاد والملك عبد العزيز بن سعود إليها, وكان الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ محمد عبده الذي تراجع عن أفكار أستاذه الاعتزالية مقربا إلي الاثنين, كما تؤكد أعداد صفحات مجلته المنار في العشرينيات التي سبقت تأسيس الجماعة سنة1928. ويبدو أن جاذبية هذه المعلومات التاريخية, وما تنطوي عليها من وقائع تريد الجماعة أن تطويها في غياهب النسيان, جذبت أكثر الذين كتبوا عن المسلسل مئات المقالات في الصحافة ومواقع شبكة المعلومات إلي نسيان حقيقة بالغة الأهمية, ضاعت في ضجيج النقاش التاريخي والسياسي علي السواء, أعني حقيقة أن المسلسل عمل فني وليس عملا تسجيليا, أو استعراضا تاريخيا محضا, من المؤكد أن المسلسل تاريخي أولا وأخيرا ولكنه يظل عملا فنيا جديرا بالتقدير وكل الإعجاب ولكن ما أثار انتباهي أن الجميع الذين ناقشوا أو كتبوا عن أكثر مسلسلات رمضان مشاهدة لم ينشغلوا بجوانبه الفنية المتميزة, سواء في الإخراج أو تتابع الأحداث أو رسم الشخصيات أو كيفيات الانتقال بين التخييل الفني والتحقيق التاريخي, أو حتي الصراع الدرامي الذي انبنت عليه شخصية حسن البنا الذي يقوم بتجسيده في المسلسل بطل تراجيدي بالمعني الكلاسيكي الذي يقوم علي, أو ينطوي علي السقطة الهاماتاريا التي تجعل بذرة النهاية كامنة في البداية, فيتحرك البطل كما لو كان محكوما عليه بالدمار ابتداء وكل هذه الجوانب الفنية تستحق وقفة خاصة بها لكن قبل أن ننتقل إلي الفن لابد من تسجيل شهادة تقدير للجهد البحثي الهائل الذي قام به وحيد حامد عبر سنوات, ليستوعب تاريخ الجماعة بكل تفاصيله وتشعباته, وكانت النتيجة دقة وصواب كل المعلومات والوقائع والأحداث التاريخية التي قام عليها المسلسل, وأعتقد أن هذه الدقة في التعامل مع المصادر التاريخية هي التي أكسبت المسلسل درجة عالية من الصدق التاريخي الذي كان يتناغم مع الصدق الفني علي نحو لا يمكن أن يحققه إلا مبدع استثنائي يستحق كل التقدير والإعجاب فنا وتأريخا علي السواء.