مملكة الإعلام في مصر استسلمت وأسلمت أمرها تماما إلي التليفزيون منذ سنوات. والصحافة المصرية تنازلت عن تاريخها البعيد وعن مجدها القديم وطرق كثير من أبنائها باب التليفزيون إعدادا وتقديما وترويجا. قد يكون هذا العصر في العالم أجمع هو عصر التليفزيون. ولكنه أكثر وسائل الإعلام برودة حيث تجربة المشاهدة هي أشد تجارب التعرض لوسائل الإعلام كسلا وخمولا. فمع التليفزيون ليست هناك شروط للمشاهدة. يكفي أن تكون إنسانا. وحتي هذا الشرط تم إلغاؤه مؤخرا في حديقة حيوان نيويورك حين وجدوا الغوريلا مثل الإنسان تستمتع بمشاهدة التليفزيون أيضا. أحد أكبر أساتذة الإعلام الدولي في العالم, وهو عميد واحدة من أكبر كليات الإعلام الأمريكية اسمه جون ميريل. كان يصر في أوائل الثمانينات علي أن الصحافة والصحافة وحدها هي التي تتحمل مسؤولية الدفع بالعالم صوب السلام أو الحرب. ولكن الصحافة التي دافع عنها لم تنصفه. فاعترف بعد ذلك بأن هذا العصر هو عصر التليفزيون بلا منازع بعد أن احتلت الصحافة عرش الإعلام زمنا طويلا. تراجع تأثير الصحف وتراجعت أرقام التوزيع وتقلصت مداخيل الإعلان ولم تعد الصحافة قادرة مثلما كانت علي صناعة النجوم. انتقلت كل تلك الأمجاد إلي التليفزيون. هو الأكثر انتشارا وجماهيرية وهو الصناعة الأغني القادرة علي منح رجالها المرتبات الأعلي بين كل وسائل الإعلام عبر التاريخ. نجوم التليفزيون اليوم يفوقون رؤساء التحرير مكانة وثروة في زمن مجد الصحافة وإن كانوا بالتأكيد اقل منهم وعيا وثقافة ومعرفة فلم يعد ذلك ضروريا. أصبح حلم كبار الصحفيين أن يطل أحدهم علي المشاهدين عبر شاشات التليفزيون في برنامج حواري يقدمه متنازلا عن كل شيء إلا الشهرة أو الفلوس وفي الغالب هما معا. في مصر وجد التلفزيون العام والخاص نفسه فجأة وبلا أدني استعداد يتربع علي عرش مملكة الإعلام المصري العتيدة فارتبك. والنتيجة أن ارتبكت صناعة الإعلام المصري ارتباكا غير مسبوق. لم يستطع التليفزيون الحفاظ علي شيء من التقاليد التي رسختها الإذاعة المصرية لعقود طويلة وورثها التليفزيون زمنا. من بين تلك التقاليد اختيار المذيعين ومقدمي البرامج. رحم الله زمن ذاك الاختيار الذي كان عسيرا. جاء للإذاعة المصرية بنجومها الذين صنعوا مجدها. أما اليوم فليس هناك من يطل علينا من شاشات التليفزيون رجل أو سيدة قد مر بذلك الاختيار. أسباب معقدة واساليب لانعرفها هي التي جعلت المشاهدين وتجعلهم اليوم حقل تجارب لهؤلاء المذيعين ومقدمي البرامج الذين أصبحوا نجوم التليفزيون العام والخاص. والحقيقة أن الغالبية العظمي منهم لايمكن بأي حال أن تصمد لحلقة واحدة من حلقات اختيار المذيعين ومقدمي البرامج التي كان معمولا بها في الإذاعة المصرية. كثير من نجوم تقديم البرامج في التلفزيون العام والخاص مهاجرون من مهن أخري يهددهم فيها شبح الفشل. تركيبة غريبة تجمع اليوم بين مؤهلات وخصائص نجوم البرامج في التليفزيون. أتحدث عن الثقافة العامة اللازمة لعمل مقدمي البرامج. وأتحدث عن اللياقة الواجبة في مخاطبة ملايين المصريين في بيوتهم. وأتحدث عن المسؤولية الاجتماعية التي هي أحد أهم الشروط الواجبة. وأتحدث عن المهنية المطلوبة وهي غائبة تماما. وأتحدث ايضا عن مدي فهم هؤلاء لدور مقدم البرنامج في التليفزيون وهي مهنة تجاوز عمرها الآن السبعين عاما منذ بداية التليفزيون في العالم ونصف قرن منذ دخول التليفزيون إلي مصر. لا شيء من ذلك كله يجمع بين هؤلاء. الشيء الذي يجمع بين معظمهم هو الشعور الطاغي بالنجومية الذي يضعهم في مصاف نجوم التمثيل والطرب والكرة. لايعرف أي منهم متي يتحدث ولا متي ينبغي عليه أن ينصت. نصب كل منهم نفسه وصيا علي الجميع ينتقد هذا ويسخر من ذلك. يجلس مثل الحكيم الذي يعظ المعذبين المقهورين غير المتعلمين. لايهتم كثيرا بتدقيق المعلومات التي يتحدث بها فكثرت الأخطاء. معجب بذاته فطالت أحاديثه وطغت آراؤه علي أراء ضيوفه. هؤلاء هم الذين يقومون بتوجيه غالبية المصريين وهم الذين يحددون لهم فيم يفكرون بل وكيف يفكرون. في رمضان الماضي كان لدينا من الإسفاف البرامجي ما يكفي في شهر الصيام. ولكن البعض قرر استيراد المزيد من الابتذال والإسفاف بمقدمي برامج من خارج الديار المصرية يتحدثون عن جمال الجنس والعري والابتذال الجنسي والتلميحات الجنسية الفاضحة التي تتضمنها الأغنيات والتشكيك في القدرات الجنسية لأحد النقاد والاطمئنان علي القدرات الجنسية لأحد الملحنين. لم يكفنا من مقدمي برامجنا البحث وراء المتربعات علي عرش السحاق وكيفية مواجهة الكبت الجنسي عند بعض الفنانات المطلقات. انزلق بعض نجوم الصحافة من مقدمي برامج التليفزيون إلي تلك الهاوية بتلميحات وتصريحات وحوارات لاتليق بمكانتهم ولا تتفق والقضايا التي يصدعون رؤوس الناس بالكتابة فيها. تجاوز الضيوف كثيرا في أحاديثهم ولكنه تجاوز جاء نتيجة الأسئلة التي وجهها مقدمو البرامج والطريقة التي أداروا بها الحوار. فهذا ضيف يتهم العالم العربي بأنه مشغول فقط بجهازين من أجهزته: الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي. وهذه شخصية أخري حلت ضيفا علي أحد البرامج تطمئن المشاهدين علي أن زوجها رجل تمام. كانت برامج التليفزيون ساحة لتصفية الحسابات وتحقيق المنافع الشخصية لمقدمي البرامج وضيوفهم علي حساب الأخلاق العامة وحقوق المشاهدين في مشاهدة نظيفة ممتعة ومفيدة وخالية من الإسفاف والابتذال. تمنيت لو أن مواجهة تلك الظاهرة جاءت من قنوات التليفزيون ومن مقدمي البرامج الجادين العارفين بحدود ومسؤوليات وظائفهم الراغبين في الحفاظ علي هذه المهنة وأخلاقياتها واستعادة احترامها بعد أن تحولت إلي سيرك اختلط فيه الناس من كل المهن فأساءوا إلي المهنة وإلي صناعة التليفزيون مهما بلغت الأرباح. ولكن الحقيقة هي أن الفوضوية التي نعيشها مع التليفزيون تستلزم وقفة جادة ومسؤولة لوضع الأمور في نصابها. ولاينبغي أن نتراجع عن التصحيح والتقويم بدعاوي تقييد حرية الإعلام. فالحرية التي تنال من الأخلاق العامة وتنزلق بالمجتمع إلي هاوية الإسفاف والابتذال ليست الحرية التي يسعي الناس في العالم من أجلها. الحرية التي نريدها هي تلك التي تطلق طاقات الإبداع وتصحح الاخطاء وتكفل التعبير عن الجميع وتوفر بدائل الاختيار الصحيحة. أما الذي يقوم به بعض مقدمي برامج التليفزيون فهو العبث بنا وتحقيق المصالح لهم. واحسب أن وزارة الإعلام لابد وأن تتصدر الجهود من أجل ضبط الفوضي الإعلامية التي ننزلق إليها يوما بعد آخر.