أعتقد أن هذا هو السؤال الذي جال بخاطر ملايين المصريين الذين ينفرون بطبيعتهم من دعاوي التفرقة والبغضاء بين المسلمين والمسيحيين أبناء الوطن الواحد وشركاء المعيشة المشتركة. والإجابة المباشرة والصريحة هي أن نؤكد جميعا ثوابت الوطن المصري والأسس التي قامت عليها الدولة المصرية الحديثة من ايام الوالي محمد علي إلي عهد الرئيس حسني مبارك. الإجابة هي في التمسك بمباديء المواطنة والوطنية المصرية التي ترسخت في ثورة1919 وتمثلت في نصوص ومواد دستورية حاكمة للحياة السياسية في بلادنا.. وفي أن نرفض بوضوح وجلاء محاولات تغيير الاساس الدستوري والمدني للدولة ولنظام الحكم, وفي أن نرفض أيضا محاولات التشكيك في مبدأ المواطنة الذي يضمن المساواة بين كل المواطنين, ومحاولات اعطاء تبريرات دينية للتمييز بين المصريين علي اساس الدين أو النوع. وهذه المحاولات كانت موجودة طوال القرن العشرين ولكن الإرادة الوطنية المصرية هزمتها وحصرتها في منطقة هامشية غير مؤثرة وعلينا أن نتذكر اليوم تاريخ مصر والمصريين الذين دافعوا عن الاساس المدني للدولة. نتذكر مثلا احداث ثورة1919 التي انصهر في أتونها المسلمون والأقباط فكان علم الثورة في وسطه هلال ابدلت بنجومه صلبان وخطب الكهنة من علي منابر المساجد والمشايخ امام مذابح الكنائس وعندما اعتقلت السلطات الإنجليزية محمود سليمان رئيس اللجنة المركزية للوفد وإبراهيم سعيد وكيلها عين الوفد مرقص حنا وكيلا للجنة لافشال محاولات الاحتلال تقسيم الشعب علي أساس ديني. وعندما عرض الانجليز منصب رئيس الوزراء علي يوسف وهبة( القبطي) في وقت رفعت فيه الحركة الوطنية شعار عدم التعاون مع الاحتلال اجتمع الأقباط في الكنيسة المرقسية يوم21 نوفمبر1919 وأعلنوا فيه أن قبول وهبة لهذا العرض يخالف ما اجتمعت عليه الأمة من طلب الاستقلال التام. من ناحية اخري حرص سعد زغلول علي إبراز قيادات قبطية قوية للإشارة إلي وحدة الأمة فانضم واصف بطرس غالي وسنوت حنا وجورج خياط الي الوفد. وعندما أجاب سعد عن سؤال بشأن حال الأقباط بعد الاستقلال قال: يكون شأنهم شأننا لافارق بين أحد إلا في الكفاءة الشخصية وفي خطاب له بالإسكندرية في6 أبريل1921 قال: أشكر العلماء والقسس الذين باتحادهم أبطلوا حجة في يد الخصوم طالما اتخذوها سلاحا قاطعا. أزالوا الفوارق وأثبتوا أن الديانات واحدة تأمر بالدفاع عن الوطن وأنه ليس لها تأثير إلا في عبادة الخالق جل وعلا أما في الوطن فالكل سواء. وفي اليوم التالي بالقاهرة عندما قام سعد بتحية أرواح شهداء الحركة الوطنية حرص علي أن ينتقل من مدافن الإمام الشافعي الي مدافن الكنيسة القبطية. لقد وضع المصريون في ثورة1919 أساسا راسخا للوحدة الوطنية ولمفهوم مدني للعلاقات السياسية يقوم علي مبدأ المساواة بين جميع المصريين فكان شعار الثورة الدين لله والوطن للجميع أو الدين للديان والوطن للجميع. وكان مفهوم الوحدة الوطنية يشير إلي معنيين مهمين: الأول أن الولاء لمصر هو الولاء الأول الذي يسبق اي انتماءات عشائرية أو قبلية أو إقليمية, والثاني أن كل المصريين متساوون امام القانون وفي الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو أي اعتبار آخر. والخلاصة أن الدولة المصرية الحديثة نشأت علي رابطة المواطنة التي تجمع بين كل المصريين وهي رابطة ذات طبيعة سياسية. لقد فهم المصريون ذلك تماما وكان سلوكهم الانتخابي علي مدي سنوات طويلة سلوكا وطنيا وكم من المصريين الأقباط الذين تم انتخابهم في مجلس النواب في دوائر ذات أغلبية كاسحة من المسلمين وكان المعيار الذي يستند إليه الناخب هو الانتماء الحزبي دون أي اعتبار آخر. ويذكر أحمد حسين رئيس جمعية مصر الفتاة أنه عندما ذهب في نوفمبر1933 لمقابلة مصطفي النحاس باشا رئيس حزب الوفد ومناقشته في برنامج الجمعية والتي كان شعارها: الله الوطن الملك, أن النحاس أعترض علي الشعار وقال له خذ مثلا كلمة الله التي وضعتها في أول شعارك فلا أراها إلا شعوذة لأن وضع كلمة الله في برنامج سياسي هو شعوذة وفي عام1937 وكان النحاس وقتها رئيسا للوزراء أعترض علي إقامة مناسبة دينية كجزء من اجراءات تولي الأمير فاروق عرش مصر وهي الفكرة التي وردت في مسلسل الجماعة الذي عرض في رمضان الماضي والتي تضمنت قيام شيخ الأزهر الشريف بتقليد فاروق سيف جده محمد علي. اعترض النحاس علي أساس أن ذلك من شأنه أن يوجد سلطة دينية إلي جانب السلطة المدنية المنتخبة من الشعب والمسئولة سياسيا ودستوريا. وخاطب النحاس مجلس النواب بقوله: إن الاسلام لايعرف سلطة روحية وليس بعد الرسل وساطة بين الله وعباده فلا معني إذن للاحتجاج في هذا الشأن بأن دين الدولة هو الإسلام أو بمكانة مصر لدي الأمم الإسلامية. بل ان هذه المكانة الإسلامية تستلزم أن ننزه الدين عن إقحامه فيما ليس من مسائل الدين. وأستطيع الاستطراد وأن أعطي عشرات الأمثلة لتبيان أن الدولة المصرية الحديثة قد نشأت علي أساس مدني وأن الجنسية المصرية والعلاقات السياسية بين الحاملين لها ومايترتب عليها من حقوق وواجبات تستند إلي مباديء المساواة والمواطنة وعدم التمييز. وعلي مدي سنوات القرن العشرين كانت هناك محاولات لضرب هذا الأساس المدني في مناسبات مختلفة. مثل الترويج لإحياء الخلافة في مصر بعد إلغائها في تركيا عام1924 واقتراح أن يكون الملك فؤاد خليفة المسلمين, ومثل قيام جماعات وظفت الدين لخدمة أهدافها السياسية وللوصول إلي السلطة. ومع أن الحجم الفعلي لهذه الآراء والتوجهات في المجتمع محدود, فمن الأمور المؤسفة أن بعض أدوات الإعلام تبرزها وتسلط الضوء عليها بما يعطيها وزنا وقيما أكبر من قدرها الحقيقي. في العقدين الأولين من القرن العشرين استخدم الاحتلال ورقة الأقباط لعدم إعطاء مصر الاستقلال وفشلت المحاولة. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تستخدم قوي داخلية وخارجية نفس الموضوع لتفتيت وحدة الشعب المصري. وتتداخل المصالح والآراء ومن مظاهرها تصريحات رعناء وغير مسئولة من بعض الأطراف المسلمة والمسيحية, وقوي خارجية تسعي لتوسيع رقعة الفتنة بين الإخوة, واتهامات بالإستقواء بالخارج, ومحاولات للإثارة الإعلامية والترويج لهذه الصحيفة أو القناة التليفزيونية بحجة جرأتها في تناول الموضوع. والموقف اليوم أكثر تعقيدا ولكن لاشك عندي أن المحاولة الراهنة سوف تلقي نفس مصير المحاولات السابقة. المزيد من مقالات د. علي الدين هلال