أنا ياسيدي رجل في السابعة والأربعين من العمر, نشأت في أسرة بسيطة وسط أب متدين وأم فاضلة وهي ربة منزل وثلاثة أولاد وبنت, وقد تزوجوا جميعا والحمد لله, وأنا أكبرهم, وبعد أن حصلت علي الثانوية العامة وأجدت إحدي اللغات الاجنبية اتجهت للعمل, وبفضل الله ودعوات أبي وأمي التي كانت لاتنقطع أصبحت موفقا في عملي, وأصل إلي إدارة المكان الذي أعمل فيه وبسرعة كبيرة, وارتبطت مشاعري خلال هذه الفترة باحدي بنات عمي التي كانت رائعة الجمال والطيبة والأدب, وما إن صارحتها بمشاعري حتي فوجئت أنها تحمل لي نفس المشاعر والأحاسيس, وكانت سعادتي لاتوصف فصارحنا الأهل وتمت الخطبة وبدأنا في تجهيز عش الزوجية وتزوجنا بعد قصة حب نادر حدوثها في هذا الزمن. وحمدنا الله أن جمعنا معا حيث إن بنت عمي هذه كانت مرغوبة للزواج من علية القوم وما تبع ذلك من مشكلات, ورزقنا الله بطفلة جميلة وأخري بعدها بأربع سنوات, وبنيت شقة أكبر من التي تزوجنا بها وأثثتها بأحدث الاثاث وترقيت في عملي فانتقلت من بلدتنا مع زوجتي وبنتي إلي تلك المدينة الساحلية وهي أجمل بقعة في مصر, ووفرت لي الشركة التي أعمل بها شقة في فيلا وسيارة وراتبا كبيرا وذهبت بنتاي للمدارس في هذه المدينة وأصبحت أموري ميسورة فاشتريت قطعة أرض لمستقبل البنتين وسيارة خاصة وأصبح لي رصيد محترم في البنك. ولم ننس أهلنا وأقاربنا فكنا إلي جوارهم دائما نحب ونرحب بزياراتهم لنا دائما, وذات يوم شكت زوجتي من بعض الآلام فذهبنا إلي الطبيب وأعطاها بعض الأدوية, وبعد أسبوع ازداد الألم عليها فأشار علينا الطبيب وهو صديق للأسرة بالنزول إلي بلدتنا ومراجعة أستاذ دكتور هو يعرفه, وسافرنا إلي الطبيب الآخر الذي طلب بعض التحاليل والأشعات وما إن رآها حتي انفرد بي وأخبرني أن زوجتي مريضة بهذا المرض اللعين وفي مرحلة متأخرة جدا, ووقع الخبر علي وقع الصاعقة, وتماسكت وعدنا إلي المنزل فأخبرتها بما قاله الطبيب وأنني سوف أقوم بعلاجها في العاصمة في أحدث المستشفيات وأن العلم تقدم و...و... فما كان منها إلا أن قالت إنني سوف أعالج هنا وسط أهلنا وليقضي الله أمرا كان مفعولا, وأصرت علي ذلك بشدة فلم أجد بدا من تحقيق رغبتها, ورشح لنا دكتور صديق أحد الدكاترة الكبار في الأورام لإجراء العملية الجراحية, وتحدد ميعاد العملية التي استمرت نحو أربع عشرة ساعة تم فيها استئصال أماكن الورم من معظم الجسم, وفي هذه الأثناء أضطررت للانقطاع عن عملي, وتصادف أن تغير مجلس إدارة الشركة فأرسلت لهم كل المستندات عن ظروفي فلم يقدروها وقبل أن يتخذوا قرارا بفصلي من العمل قدمت استقالتي وقررت بعد أن أخبرني الطبيب المعالج أن الأعمار بيد الله لكن هذه الحالات الصعبة العمر لا يتعدي عدة شهور فقررت أن أبقي إلي جوار زوجتي هذه الأشهر والتي هي آخر نصيبها من الدنيا وليحدث ما يحدث بعد ذلك. وبدأنا رحلة العلاج الكيماوي الرهيبة وكم كنت أري آلامها من هذا العلاج وهذا المرض الذي لا يرحم, فقد بدأت حالتها تسوء وأصبح بصرها يضعف شيئا فشيئا وكنت أتعذب وأنا أري الألم يرتسم علي وجهها الجميل وهي تحاول أن تخفيه كي لا تعذبني وأصبحت لا أستطيع أن أحبس دموعي حين أسرح لها شعرها ويتساقط الشعر في الفرشاة وأنا أحاول جاهدا أن أحبس دموعي وأخفي الفرشاة في وقت واحد. أو حين تتحسس الموبايل حين تطلبها احدي البنتين وهو إلي جوارها وأناولها إياه ولا تستطيع الرد عليه وأصبحت أفعل كل ما بوسعي لأرفع من روحها المعنوية, لكن آلامها كانت أبرح من ذلك بكثير, وأصبح يومي هو المبيت معها وفي الصباح الذهاب للبنتين لإحضار الطعام لهما وإغلاق الشقة عليهما والعودة للمستشفي أو اصطحابهما لزيارة أمهما حين لا تكون في نزاع مع الألم, وهي أوقات قليلة جدا, وبدأنا الاستعانة بأقوي المسكنات القانونية وغير القانونية لتسكين الألم دون جدوي, وانتقلنا من مستشفي لآخر ومن مركز لآخر دون جدوي, وصعدت روح زوجتي إلي بارئها في يوم جمعة حين أذن المؤذن لصلاة الجمعة بعد رحلة علاج استمرت حوالي سبعة أشهر ووجدت نفسي وحيدا ومعي طفلتان لايكادان يدركان ما حل بهما ولا بأمهما وأصابني حزن شديد لم أستطع الخروج منه وقد وجدت نفسي وقد فقدت كل شئ فلا عمل ولا أرض ولا سيارة ولا نقود ولا صحة فقد أصابني مرض السكر من شدة الحزن, وتدهورت صحتي بسرعة وأصبحت نحيلا حتي إن من عرفني سنوات وسنوات يحملق بي الآن ليعرفني أنا أم لا وأصبحت وأنا كنت أكثر الناس مرحا لا أعرف معني الضحك أو الابتسام رغما عني. حتي ان طفلتي ورغم ما حل بهما من تغيير في حياتهما من مستوي الي آخر تماما أصبحا يسألانني أنت مكشر ليه يابابا؟! وهذا يحدث رغما عني ولا أشعر به, وظهر لي معدن الأصدقاء فلم أجد من المخلصين سوي اثنين أو ثلاثة بجانبي قدر استطاعتهم, والمشكلة يا سيدي انني لا استطيع نسيان معاناة زوجتي وآلامها الفظيعة مع هذا المرض اللعين, وأتذكر كل محاولاتها اخفاء هذا الالم عني وأتذكر كم كانت تقاسي من هذا الوحش الذي ينهش في اجساد مرضاه بلا هوادة ولا رحمة ولا يعلم آلامه سوي الله ومرضاه الذين يقاسون هذه الآلام, جنبنا الله واياكم هذا المرض وجميع المسلمين يارب العالمين, وبعد مرور خمس سنوات علي وفاة زوجتي الحبيبة وبعد أن غرقت في الديون وتخلي عني جميع من ظننتهم الي جواري قابلت احد رجال الاعمال الذي اسديته صنيعا يوما وما ان رآني لم يصدق وأصر علي عملي في احدي شركاته في مكان بلا عمل تقريبا منذ أربعة أشهر, ولكن للأسف في نفس المحافظة البعيدة واضطررت للبعد عن ابنتي وتركهما مع جدتهما وهي أمي لاستمرار الحياة ومحاولة البدء من جديد, وأصبحت بين مطرقة البعد عن احبائي وسندان متطلبات الحياة, والحمدلله. وللاخت كاتبة رسالة آلام الخوف أقول بارك الله فيك باحساسك الجميل, وليكن دعاؤنا في كل جمعة: ربي لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه, فهو القادر سبحانه وتعالي علي أن يخفف ألم المتألمين والذي لا يعلمه سوي الله ومن يقاسون هذا الألم وهو الرحمن الرحيم. * سيدي.. لا اعتقد انك في حاجة الي كلمات مني عن ملاكك الراحل. وان الله طهرها بالألم, فكانت من الصابرين علي قضائه, الراضين بابتلائه, فذهبت اليه راضية مرضية في ساعة ويوم مباركين, مثل هذه الانسانة يحزن علي فراقها ويسعد لها, لانها ستكون حيث وعد الله الصابرين, المؤمنين. يفوتنا كثيرا يا صديقي أن أقدارنا تأتي الينا في موعدها.. هذه الأقدار التي كتبت لنا وعلينا, ولا يستطيع أي منا تغييرها, يأتينا الموت وهو الحق المعلوم, والنهاية الحتمية التي نعرفها منذ لحظة الميلاد, وعلينا أن نستعد لها, فالحياة الدنيا مهما طالت قصيرة, وحياتنا الأبدية هي التي ذهبت اليها شريكة حياتك وسنلحق بها, فلماذا اذن تصيبنا الدهشة ويسكننا الحزن. الموت واحد, مفاجئا أو مبشرا, صامتا أو مدويا, وما قد يبدو سببا له, كالمرض أو الحوادث لا يغير في حقيقته ومعناه ونتائجه, وتبقي الحكمة لله وحده, علينا أن نقبلها صاغرين.. وما حدث لزوجتك ربما كان لحكمة منها الكشف عن معدنك الاصيل ومعادن من حولك من الصادقين او الهاربين من الدعم والمساندة, استميحك عذرا ان تطل بعينيك علي الرسالة المجاورة لك سوف أحيا ففي التضاد بين البشر والحكايات تتجلي حقيقة الانسانية, وتتكشف المعاني الحقيقية للخير أو الشر. سيدي.. لم تطلب مساعدة أو عملا وحرصت علي تأكيد ذلك في سطورك الخاصة لي, ولكنه الحزن الذي جعلك تبوح وتفضفض لنا, لذا أقول لك من أجل زهرتيك طفلتيك الجميلتين, الحزن يجلي النفوس يعيد اليها نقاوتها, فتصالح مع واقعك, ابتسم للحياة, وثق في عدل الله ورحمته, احتو طفلتيتك قدر استطاعتك, احك لهما دائما عن جمال امهما وحبها وعطائها وكيف عشتما قصة حب والم رائعة, واسع الي تغيير وضعك الوظيفي بتنمية مناطق قوتك حتي تترقي في عملك أو تبحث عن عمل آخر حتي تتمكن من أن تصطحب طفلتيك معك فلا يطول غيابك عنهما, وثق كما وضع الله في طريقك صاحب العمل ينتشلك من البطالة ويمد لك يده ليعينك علي مواصلة رحلتك في الحياة, فهو قادر علي أن يرزقك ويعينك علي تلك المسئولية الكبيرة, فالقادم أصعب, ولكن مثلك لا خوف عليهم, فبإيمانك اجتزت الصعب.. كل الدعوات لزوجتك الراحلة ولك ولزهرتيك ولوالدتك الكريمة واعانك الله وزاد من صبرك.. والي لقاء قريب بإذن الله.