لم يكن الإعلان عن خدمة جوجل الصوتية خطوة انطلقت من فراغ صوب المستقبل, بل كانت جزءا في سلسلة من الأفكار والجهود والمنجزات العلمية والتطبيقية, تتابعت حلقاتها وتراكمت عبر أكثر من عقدين من الزمان واستهدفت تحقيق هدف الشبكة كلية الوجود, وقد تعددت هذه الحلقات وتنوعت وكان من بينها ما يشبه المحطات البارزة, وقد حددنا ثلاث من هذه المحطات علي سبيل المثال لا الحصر, باعتبارها علامات مميزة في مسيرة تحقيق هذا الهدف, وتناولنا الأسبوع الماضي أول محطة وهي الوصول إلي شبكة شاملة ذات بنية تحتية موحدة, واليوم نشير في عجالة إلي المحطتين الأخريين وهما نظام الترقيم الموحد, وفكرة التواصل السلس اللتان كانتا بمثابة تمهيد ضروري لخدمة جوجل الصوتية. علي التوازي مع الحديث عن شبكة شاملة ذات بنية تحتية موحدة, تنفتح فيها شبكات الاتصالات علي شبكات المعلومات وفي مقدمتها الإنترنت مع شبكات المحمول والاتصالات الفضائية وغيرها, ظهرت أيضا افكار تنادي بأن يكون هناك رقم تليفون( موحد) وفريد وغير متكرر لكل إنسان علي ظهر الكوكب, يستخدمه هو فقط في التواصل مع العالم من حوله عبر الشبكة ذات البنية التحتية الموحدة, فيرسل منه اتصالاته الصوتية والنصية والمرئية الصادرة للآخرين, ويتلقي عليه الاتصالات الواردة من الآخرين عبر مختلف أنواع شبكات الاتصال. بتوضيح أكثر قال الداعون لهذه الفكرة أنه في عصر الإنترنت وشبكات الاتصالات المتنوعة, أصبح من المعتاد أن يجد الإنسان نفسه مشتتا بين وسائل بريد واتصالات لا نهاية لها, وتتوالي علي أسماعه خطابات بالبريد العادي, وأخري بالبريد الإلكتروني ورسائل قصيرة من المحمول ورسائل ثالثة من أجهزة الفاكس, ورسائل صوتية مخزنة في صندوق بريد صوتي بالتليفون المنزلي أو بخدمة الرسائل الصوتية لدي شبكة التليفون المحمول, وانتهي الأمر إلي ما يشبه انفجار في وسائل الاتصالات خلف وراءه شظايا متناثرة في وسائل وأماكن متعددة, كل منها يحمل معلومة او بيان جاء من شخص ما, ووسط هذا الانفجار أصبح علي الشخص أن يحفظ عن ظهر قلب رقم تليفونه المنزلي وعنوان موقعه علي الإنترنت وعنوان بريده الإلكتروني وتليفونه المحمول ورقم الفاكس وتليفون مكتبه. بدا هذا الوضع مليئا بالصدوع والشروخ, ولذلك بدأ التفكير فيما يعرف بنظام الترقيم التليفوني الدولي, الذي يجعل بإمكان أي شخص أن يمتلك رقما موحدا يصله ببريده الإلكتروني وتليفونه والمحمول والمنزلي والفاكس في جهة العمل ومواقع الإنترنت الخاصة به, أي يكون هذا الرقم الموحد أشبه بمفتاح صغير لبوابة شديدة الاتساع, فيتيح لصاحبه القفز بسهولة من الشبكات التليفونية العادية إلي المحمولة إلي شبكات الخدمات والمعلومات الموجودة في قلب الإنترنت وخارجها, ليضع بين أطراف أصابعه طيفا واسعا من الخدمات ووسائل الاتصال المختلفة. ترجع فكرة هذا إلي أحد مهندسي شركة سيسكو يدعي باتريك فالتستروم, الذي يقول إن الفكرة نبعت من الحاجة إلي تفادي تكرار كتابة الكثير من العناوين علي الكروت الشخصية. وقادته هذه الفكرة البسيطة إلي التفكير في نظام يستفيد من التقدم التكنولوجي في توحيد مصادر المعلومات عن الأشخاص سواء كانوا أفرادا أو هيئات عن طريق الدمج بين التكنولوجيات المختلفة بدءا من التليفونات المحمولة, مرورا ببروتوكولات عناوين الإنترنت, وبروتوكولات الاتصال التليفوني عبر الإنترنت, وصولا إلي البروتوكولات التي تحكم البريد الإلكتروني والرسائل الفورية والبريد الصوتي التقليدي, وجميع البروتوكولات التي تحكم عمليات الاتصالات. أطلق علي النظام الجديد اسم نظام الترقيم التليفوني الدولي وقد خضع لنقاش واسع بين المنظمات والهيئات وشركات تكنولوجيا المعلومات والاتحاد الدولي للاتصالات المنوط به تنظيم قطاع الاتصالات علي المستوي العالمي, واكتسب أهميته من خلال تكامله مع نظام آخر هو نظام تسمية عناوين الإنترنت أو ما نطلق عليه أيضا نظام أسماء النطاقات,ويشكل اتحاد النظامين معا خطوة مهمة علي طريق تحقيق حلم الشبكة كلية الوجود. وقد اسفر النقاش الواسع الذي دار حوله عن ما يسمي بروتوكول نظام الترقيم التليفوني الدولي الذي أعلن عنه في عام2006, وتشكلت ملامحه الأولي نتيجة جهود بذلتها مجموعة تخطيط أرقام التليفونات, وهي مجموعة عمل كانت تخضع لإشراف فريق عمل هندسة الإنترنت الذي تشكل تحت مظلة القمة العالمية لمجتمع المعلومات, والتي كان من مهامها تحديد البنية الهندسية الأساسية للنظام الجديد وكيفية عملة, وتحديد البروتوكولات التي سيتم الاستناد إليها في تخطيط ورسم نظام الترقيم التليفوني الجديد. وكانت أولي مهام البروتوكول الجديد أن ينظم كيفية عمل نفسه شخصيا, وأن ينظم بعد ذلك عملية الوصول لمصادر المعلومات من خلال نظام الترقيم الجديد. وبالفعل, نجحت مجموعة العمل في وضع بعض الملامح الرئيسية المتعلقة بشكل النظام الجديد, وتكوينه, واختاروا له اسم نطاق جديدا هوe.164arpa, وقد قدم هذا الجهد الضخم واحدا من الأسس العلمية والفكرية المهمة التي قامت عليها خدمة جوجل الصوتية كما سيأتي التوضيح فيما بعد, فلأول مرة أصبح لدي العالم تصور واضح مجسد في بروتوكول عملي قابل للتطبيق حول فكرة رقم التليفون الموحد والمنفرد لكل إنسان, بل وقاعدة معرفية حول كيفية تطبيقه عمليا عبر شبكات متنوعة السمات موحدة البنية التحتية. التواصل السلس بعد النجاح الذي تحقق علي صعيد البنية التحتية المفتوحة الموحدة, والنضج الذي اكتسبته فكرة رقم التليفون الموحد, تطورت الأمور أكثر وظهر من يطرح فكرة انتقال الاتصال سواء كان اتصالا صوتيا أو نصيا أو مرئيا من شبكة لأخري ومن أداة لأخري بصورة سلسة وبلا تعقيدات أو عوائق بحيث لا يشعر القائم بالاتصال بأي اختلال أو انقطاع أو بطء أثناء عملية الاتصال. للتوضيح فإن هذه الفكرة كانت تطمح إلي تحقيق ما يلي: لو كنت تجلس في منزلك وتشاهد فيلما يبث من محطة تليفزيونية رقمية أو من موقع علي الإنترنت وتستقبله علي جهاز يدوي داخل المنزل عبر شبكة المنزل اللاسلكية, ثم قررت الخروج من المنزل إلي مقر العمل حاملا الجهاز فهذا لا يعني انقطاع بث الفيلم علي الجهاز, بل سيكون بإمكانك أن تواصل المشاهدة وأنت تسير في الشارع قاصدا محطة المترو أو القطارات أو جراج السيارة, وحينما تستقل السيارة أو المترو لن ينقطع البث بل سيتواصل كما كان الحال بالمنزل, ولو وصلت المكتب ولم ينته زمن بث الفيلم ورغبت في مواصلة المشاهدة فلا بأس أيضا, فسيمكنك مواصلة المشاهدة كما كان الحال بالمنزل, والسر في ذلك ان الجهاز الذي تحمله في يدك ظل يتواصل بسلاسة ويسر دون انقطاع مع العديد من شبكات الاتصالات المختلفة دون أن تحس أنت أو يؤثر ذلك علي بث الفيلم, ففي المنزل كان يتواصل مع جهة البث من خلال شبكة المنزل اللاسلكية المتصلة بالشبكة الأرضية المتصلة بدورها بنقطة البث, وحينما غادرت المنزل, خرج الجهاز من شبكة المنزل وتواصل مع مصدر البث عبر شبكة التليفون المحمول وقام بتوصيلك بالمصدر بكل سلاسة, لكنك حينما جاوزت المنزل وانطلقت بالسيارة مبتعدا, دخلت في دائرة تغطية شبكة واي ماكس أو واي فاي لاسلكية في المنطقة المجاورة, وهذا لم يؤثر كذلك علي الجهاز, لأنه قام مرة أخري بالخروج بسلاسة من شبكة التليفون المحمول والتواصل بسلاسة كذلك مع شبكة الواي ماكس أو الواي فاي, وحينما وصلت المكتب خرج من الواي فاي ودخل بسلاسة في نطاق تغطية شبكة المكتب اللاسلكية المحلية, وفي كل هذه المراحل ربما مر عبر الإنترنت في بعض الاحيان وبالشبكات الارضية في أحيان أخري, لكن هذا الجهاز حافظ طوال الوقت علي درجة عالية من التواصل السلس مع الجميع دخولا وخروجا. لاحظ هنا أن الحديث عن تواصل بالمشاهدة, وليس مكالمة صوتية, وهذا يعني أن سلاسة الاتصال ستطبق علي كل أشكال الاتصال وليس المكالمات فقط, وكما هو واضح فإن هذه الرؤية لم يكن ممكنا خروجها للنور لولا الجهد المسبق الخاص بإنشاء بنية اتصالات متكاملة تتكون من أجهزة وشبكات متوافقة بذكاء داخلي يمكنها من إدارة ما بينها من فواصل أو حدود ويمنح المستخدم خبرة متجانسة متواصلة وانسيابية, ولولا الجهد الخاص بنظام الترقيم الموحد الذي يحدد هوية القائم بالاتصال ومتلقيه عبر كل أشكال شبكات الاتصالات وأدواتها. كانت شركة موتورولا هي من طور مفهوم التواصل السلس وقدمه للعالم في2006 و2007, كاستراتيجية بعيدة المدي, وقد تمثلت القيمة الحقيقية لهذه الرؤية في كونها سعت إلي تذليل عقبات التواصل فيما بين الشبكات وبعضها البعض علي صعيد التشغيل العملي, ووضعت نصب أعينها فكرة انتقال الاتصال من شبكة لأخري بأشكال اتصال مختلفة, أو بالأحري الانتقال من جزء لآخر عبر الشبكة موحدة البنية التحتية بلا انقطاع أو أبطاء, بحيث لا يشعر المستخدم بأنه انتقل من شبكة لأخري, بل يستمر في الاتصال نصا أو صورة او صوتا وكأنه داخل شبكة واحدة, علي الرغم من أنه فعليا يتنقل من شبكة لأخري دون أن يشعر. تجمعت أمام جوجل وباحثيها الأفكار التي تمت في المحطات الثلاث, بما حققته من إنجازات وما حملته من طموحات تحققت جزئيا أو أحلام لم تتحقق كليا, إضافة لأفكار أخري عديدة لا يتسع المقام لذكرها, ومن قلب هذه الأفكار جميعا خرجت خدمة جوجل فويس لتضيف خطوة جديدة نحو تحقيق حلم الشبكة كلية الوجود..وإلي الأسبوع المقبل.