كيف يمكننا قراءة المشهد المجنون الذي يبدو فيه القس تيري جونز صاحب الفكرة المرعبة بحرق نسخ من القرآن الكريم وكأنه يلهو بعود ثقاب مشتعل مع أن معظم النار من مستصغر الشرر؟ لهذا المشهد جزءان أولهما ظاهر والثاني باطن. الجزء الظاهر منه هو الأقل خطورة. قس باحث عن الشهرة في كنيسة منعزلة صغيرة لا يتجاوز أتباعها الخمسين فردا يقرر فجأة أن يقوم باستعراض علني بإحراق نسخ من القرآن الكريم. السبب الظاهر لمحاولته هو الاحتفال بذكري ضحايا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر بتدمير برجي مركز التجارة العالمي من دون اكتراث لما قد يؤدي إليه هذا الاحتفال' الإيماني' الغريب من إشعال مشاعر العداء والكراهية والعنف في عالم يعاني أصلا من تداعيات هذه المشاعر. من غير المفهوم أيضا لماذا تذكر القس الأمريكي فجأة إحياء ذكري ضحايا11 سبتمبر بهذه الطريقة بعد تسع سنوات كاملة من وقوع المأساة؟ والقس الأمريكي الذي أطلق تهديده المفزع يبدو رجلا باحثا عن الشهرة بأي ثمن. طريقته في الاستعداد لأحد المؤتمرات الصحفية التي عقدها للحديث عن تهديده تكشف عن ذلك. فهو يحرص علي تعديل هندامه ويرتب هيأته قبل الاقتراب من الميكروفونات. وحينما تأكد أن العالم قد تملكه الخوف والقلق بسبب تهديداته تقمص الدور فأعلن أنه ماض في تنفيذ تهديده ما لم يطلب منه البيت الأبيض وقف ذلك. وبلغ استمتاعه بلعبته المجنونة درجة أنه منح إمام مسجد نيويورك مهلة زمنية لساعتين لكي يقرر العدول عن فكرة إنشاء المركز الإسلامي في مكان تفجير برجي مركز التجارة العالمي. في الجزء الظاهر من المشهد أيضا حالة استنكار تكاد تعم العالم كله. فبالاضافة إلي الرئيس الأمريكي أوباما وغيره من رؤساء وشخصيات سياسية في دول غربية أخري أدان الفاتيكان هذا التهديد العابث بحرق المصحف, وبدا أن باكستان والهند هما الأكثر فزعا بحكم إدراكهما لما يمكن أن يترتب علي تنفيذ هذا التهديد من قلاقل واضطرابات لاعتبارات ديموجرافية وأمنية. أما الرأي العام الأمريكي فكان في مجمله حرا وشجاعا ومتسامحا إذ كشفت استطلاعات الرأي الأولي عن رفضه للتهديد بحرق القرآن. وهكذا يبدو الجزء الظاهر في مشهد التهديد بحرق المصحف تصرفا فرديا متهورا من جانب رجل باحث عن الأضواء سرعان ما أدانه العقلاء من رجال السياسة والمؤمنون الحقيقيون من أتباع الديانات الأخري. ولكن ماذا عن الجزء الباطن من المشهد وهو الأكثر خطورة وإثارة للقلق في حقيقة الأمر, والذي لا ينبغي تجاهله حتي ولو لم يتم تنفيذ التهديد في موعده المحدد؟ الواقع أن تهديدات القس الأمريكي تبدو حلقة في سلسلة التصرفات والتصريحات التي تستعدي الإسلام وتحاول الحط من كرامة المؤمنين به وتحرض علي كراهيتهم. هذه حقيقة يصعب إنكارها. ربما يري كثيرون في الغرب أن ما يقال عن الإسلام والمسلمين يندرج في باب حرية التعبير عن الرأي إلي درجة أن الرئيس الأمريكي أوباما حينما سئل منذ يومين عن القول بأن الدعوة إلي حرق القرآن هي ممارسة لحرية التعبير رد قائلا' هذه مسألة محيرة'! وكان لافتا تأكيد السلطات الأمريكية أن محاولة حرق نسخ من القرآن إنما تنتهك قانون السلامة العامة الذي يحظر إشعال الحرائق في مكان عام.واختزال خطر هذه التهديدات في مجرد مخالفة قانون السلامة العامة أو البيئة أمر مدهش وعجيب من ابتكارات عقلية قانونية أمريكية فريدة!! أما الزعم بأن إحراق نسخ من القرآن ممارسة لحرية التعبير أمر ينطوي علي مغالطة كبري ليس فقط لأن هذا الفعل أو غيره من الأفعال والأقوال والممارسات ضد كل ما يرمز للإسلام يشكل جريمة نموذجية للتحريض علي الكراهية والتحقير الديني, وهو ماتنص عليه المادة20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي تم اعتماده سنة1966, وهو ما تنص عليه أيضا القوانين الأمريكية, بل أيضا لأن أحدا لا يجرؤ في العالم الغربي أن يتصرف علي هذا النحو ضد اليهودية أو اليهود, وإلا فإن التهمة الثقيلة والمشهرة دائما هي معاداة السامية وهي جريمة تعاقب عليها القوانين الغربية بوصفها صورة خاصة من جرائم التحريض علي الكراهية أو التحقير لسبب ديني. لا يفهم المرء كيف أن السلوك ذاته يصبح محظورا ومعاقبا عليه إذا وقع ضد أتباع ديانة معينة لكنه يصادف التجاهل إذا ارتكب ضد أتباع ديانة أخري؟ لا أود في هذا السياق الخلط بين الحكم القانوني للمسألة وبين ما يثار من جدل اجتماعي وثقافي حول مشاكل اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية وهواجس ما يقال عن أسلمة الغرب. فهذه قضية أخري لكن المؤكد أن الموقف القانوني الغربي علي الأقل في شق التأويل والممارسة ينطوي علي تحيز غير مفهوم. والملاحظ أن التهديد بحرق القرآن يجئ في وقت تنتشر فيه وتتصاعد تيارات الاستعداء الحضاري ضد الإسلام في الغرب بشكل يكاد يكون يوميا. والأخطر هو حالة التجاوب السياسي مع هذه التيارات الشعبوية ضد الإسلام في بعض البلدان الغربية. ولعل أحدث مثال لذلك ما قامت به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منذ أيام بالاحتفاء بالرسام الدنماركي فيستر جارد الذي سبق له نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام, والقاء كلمة في حفل تسليمه جائزة في برلين. لقد جاء في حيثيات منح فيستر جارد جائزته' تقديرا لشجاعته في الدفاع عن القيم الديمقراطية'. فهل كانت المستشارة الألمانية لتقدم علي تكريم رسام نشر رسوما مسيئة لليهود أو اليهودية ولو تحت أي زعم أو مبرر؟! وعلي الرغم من أن أحزاب الخضر واليسار في ألمانيا قد انتقدت تصرف المستشارة الألمانية فإن احتفاءها بالرسام الدنماركي لم يكن ليتم إلا في في ظل مناخ شعبوي عام معاد للإسلام والمسلمين. فمنذ أسابيع أصدر تيلو زاراتسين العضو البارز في الحزب الاشتراكي المسيحي في المانيا كتابا بعنوان' ألمانيا تلغي نفسها'. والكلام دعوة إضافية أخري لكراهية الوجود الإسلامي في ألمانيا. المؤكد في نهاية المطاف أننا أمام تيار غربي شعبوي معاد لرمزية الوجود الإسلامي تغذيه قوي وأطراف وحسابات انتخابية وتحريض خارجي معروفة جهته. إنه تيار مثير للقلق يجب ألا تخطوه العين. وليست تهديدات القس الأمريكي تيري جونز سوي عينة لهذا التيار الآخذ في الانتشار. قد ينجح العقلاء اليوم في نزع فتيل مخطط إشعال حريق الأديان لكن ماذا عن الغد أو بعد الغد ؟. فالقضية أخطر مما نتصور لا سيما في حقبة مقبلة تشتد فيها التوترات السياسية في المنطقة. وحينما تلتهب الأعصاب الدينية والسياسية لأمة تعاني هذا القدر من الامتهان يكون الحذر واجبا والقلق مبررا مما قد تخفيه الأيام.