أبتسم لذاكرتي وهي تستعيد ما رواه لي الفنان الرائع عبدالحليم حافظ في يوليو من عام1973 وكان عائدا من رحلة علاج سريعة في لندن, وحكي لي الفنان الكبير قصة ذلك المتسول الذي استوقف كلا من سير لورنس أولفيه سيد المسرح الانجليزي ومعه الممثل المصري العالي المقام والقدرة عمر الشريف وكان عبد الحليم بصحبتهما تلبية لدعوة لورنس أولفيه علي العشاء.. واستطاع المتسول أن يحكي حكاية تقليدية عن الزوجة التي تلد الآن وهو لايجد من يرعاها أو يرعي أبناءه الخمسة, وكيف أنه لايجد قوت يومه. واندهش عبدالحليم وعمر الشريف من لحظة إخراج سير لورنس أولفيه لمبلغ كبير من المال كي يقدمه إلي ذلك المتسول, وقال له حكايتك عادية جدا كما أن كل الإنجليز يتمتعون بتأمين صحي جيد المستوي, ولكن أسلوب عرضك التمثيلي فاجأني, فأنت ممثل موهوب, وهذه النقود التي أعطيها لك ليست لأني صدقت حكايتك, ولكنها تحية لقدرتك علي التمثيل المقنع. وفي كل رمضان حين تنطلق موجات من المتسولين في شوارع القاهرة والجيزة وتعلو الدعوات, وتنبسط ملامح من أعطي الصدقة, أما ملامح من أخذ الصدقة فهي تعود إلي بلادتها التي أتقنت الحصول علي مال دون جهد. وكان من المفترض أن يتلقوا أجرا يكفيهم شر المذلة, خصوصا بعد أن صار جمع القمامة من شوارع القاهرة والجيزة من مسئولية شركات عملاقة, وتشرف علي تلك الشركات هيئتان للنظافة, وتحصل الهيئتان علي ملايين الجنيهات المضافة شهريا علي إيصالات الكهرباء. ولا أظن أن حال النظافة في شوارع القاهرة والجيزة يرضي أحدا, علي الرغم من زيادة عدد المتسولين الذين يرتدون زي العاملين بهيئتي نظافة القاهرة والجيزة, وأيضا زي العاملين بشركات جمع القمامة. وما أن نجلس أمام التليفزيون, حتي تبدأ إعلانات أخري عن بناء المعهد الجديد للأورام ومركز جراحات القلب بأسوان ولابد أن نسجل بالتقدير نوعية الاعلانات التي تخص مركز جراحات القلب لمجدي يعقوب, فهي لا تعتمد علي عرض وجوه مكفهرة للمرضي, ولكنها تعرض قدرة التكافل بين أفراد المجتمع أغنيائه وفقرائه. ثم تأتي إعلانات مستشفي57357 لتنقل أنباء عن تقدم علاج هذا المرض العضال بنسبة كبيرة, ولكن ما أن تفاجئك إعلانات معهد الأورام الجديد حتي تجد نفسك أمام مأساة تعصر قلب المشاهد, علي الرغم من أن المطلوب ليس عصر القلوب, ولكن إثارة الحماس للتبرع, وكل تلك المشروعات جديرة بأن تتجه لها أموال الصدقات والزكاة, وبعضها أتقن الحرص علي كرامة من يتلقون منافع طبية منها, إلا أن اعلانات بعض من المشروعات الخيرية يفتقد حساسية حماية كرامة من يتم جمع المال لعلاجهم أو مساعدتهم, حيث يتم التعرض الحاد والجارح لأوجاع المحتاجين وبشكل شديد القسوة, فضلا عن أن تلك الإعلانات يتم بثها بين إعلانات أخري بعضها راقص وبعضها هزلي, والثالث منها يحاول إيقاظ مسئولية تنظيم الأسرة, بحيث لايزيد أفرادها إلي الحد المزعج الذي نحياه حاليا من سيل النسل الجارف. ولذلك أحلم بأن نجد من أساليب جمع التبرعات لتلك المشاريع المهمة والأساسية, ما يحقق الهدف دون أن يلمس بالجرح كرامة من نجمع لهم تلك الأموال. وفي نفس الوقت هناك جهات أخري تحتاج بشدة لتبرعات كي تستكمل قدراتها العلمية لإنقاذ آلاف من ضحايا حوادث الطرق وغيرها, وأحمد الله أنها تجد من يمد لها بعضا من أموال الخير, والمثل الواضح هو ما عرفته مصادفة هذا الأسبوع من الأستاذة الدكتورة عالية عبدالفتاح أستاذة الرعاية الحرجة بقصر العيني, والتي تسهم بالجهد في استكمال احتياجات قسم الاستقبال بقصر العيني, وهو القسم الذي كان من أحلام أساتذة قصر العيني الكبار أن يكون في مستوي ما ينتجه المجتمع من كوارث وحوادث. ومازلت أتذكر ملامح الراحل الجليل عميد الطب الأسبق صالح بدير وهو يرنو بعيون الخيال حالما بأن يكون استقبال الحوادث بقصر العيني في مستوي مركز ريجان الذي تم تأسيسه بالولايات المتحدة حين تعرض الرئيس ريجان لاعتداء همجي, واستطاعت العميدة السابقة د. مديحة خطاب أن تؤسس بهذا الاستقبال غرف عمليات للمخ والأعصاب, بجانب جراحات العظام وعلاج الحروق, وها هو د. سامح فريد عميد الطب الحالي يواصل الرحلة الطويلة, ويتم ذلك في صمت, ومن الرائع ان هذا المشروع قد لفت نظرالبنك الأهلي المصري فرصد مبالغ تتعدي الملايين من أجل أن يتم تجهيز هذا الاستقبال بما يحتاجه من معدات معاصرة, حيث رصد البنك كل المبالغ التي كان يصرفها من قبل علي شراء هدايا رأس السنة والتي كان يقدمها لعملائه, ولما كانت صيانة الحياة في نظر إدارة البنك المعاصرة أكثر أهمية من أجندة أو مجموعة أقلام حبر أو حتي حقيبة جلدية فاخرة, لما كانت صيانة الحياة لمن دهمته حادثة لم يستطع تفاديها هو أمر أساسي بأية معايير دينية أو أخلاقية, لذلك اتجهت الملايين إلي صيانة الحياة, خصوصا ونحن نرزح تحت وطأة أعلي نسبة من حوادث الطرق. باختصار: من الرائع أن نستثير نوازع الخير في قلوب الناس, والأكثر روعة أن يتم هذا بأسلوب لايجهض إحساس البشر بضرورة المشاركة الفعالة, ودون أن يصيب التبلد مشاعر من يشاهد تلك الإعلانات, فيكفينا تبلد وجود جامعي القمامة الذين لا يؤدون أعمالهم ويترصدون البشر في مطالع كباري القاهرة والجيزة وعند إشارات المرور.