لم أكن أتصور أن ما كتبته في هذه الجريدة متسائلا: هل نحن دولة مدنية حقا معلقا علي المادة الثانية من الدستور, يمكن أن يثير كل الاستجابات التي تلقيتها بالتقدير والعرفان, خصوصا ما كان يهدف منها الي التحقيق والتدقيق والتوضيح أو الحوار الخلاق. والحق أن الاستجابة الأولي كانت ممن ينتسب الي الجانب الأول, وهو أستاذنا يحيي الجمل الذي عقب بمقاله هل نحن دولة مدنية( في جريدة المصري اليوم بتاريخ2010/8/5) موضحا أن دستور1971 كان ينص علي أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. وأن هذه المادة تعدلت مع مادة أخري في الثاني والعشرين من مايو1980 لتصبح الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وهذا القصر في المادة بعد تعديلها هو الذي فتح الباب للحديث عن الدولة الدينية, مع أنه لم يكن سوي نوع من النفاق الديني الذي يهدف الي المكسب السياسي, ويبرر الموافقة علي قبول تعديل المادة(77), وذلك بتحويل نصها من: مدة الرئاسة ست سنوات ميلادية, تبدأ من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء, ويجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدة أخري الي... ويجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخري, وذلك بتحويل التاء المربوطة الي دال( مدة مدد) تنتقل بالمادة من التحديد الي التعميم. وهو التعديل الذي لم يشأ الله سبحانه وتعالي للسادات الإفادة منه, فقد اغتاله حلفاؤه في السادس من أكتوبر سنة1981, رحمه الله, وغفر له ولنا بحق هذا الشهر الفضيل. وشكري, مع القراء المهتمين, لأستاذنا الدكتور يحيي الجمل علي تذكيرنا بأن المحكمة الدستورية العليا, في عصرها الزاهر, أفرغت هذا التعديل من مضمونه عندما قالت إن النص يقصد منه مباديء الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت قطعية الدلالة. هذه المباديء هي وحدها التي تعد المصدر الأساسي للتشريع بعد التعديل. والمباديء قطعية الثبوت قطعية الدلالة في غير العبادات لا تتعدي عددا محدودا جدا من المباديء. وهو حكم أفرغ التعديل الساداتي( الذي تتقنع فيه المصلحة السياسية بقناع الدين وتتجمل به) من أي تهديد مباشر, يمكن أن يقع علي حضور الدولة المدنية وهويتها وقوانينها الملازمة. وقد أفادني صديقي الدكتور نصار عبد الله بمادة معلوماتية غزيرة, أنعشت ذاكرتي, بما كتبه عن تعديل1980, وعن استفتاء22 مايو1980, حين خرج الشعب المصري فيما قيل لكي يدلي برأيه في تعديل مادتين من الدستور هما المادة الثانية التي أصبحت بعد تعديلها تنص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, والمادة السابعة والسبعون التي أصبحت بعد تعديلها تنص علي أنه يجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخري( لا حد لها بالطبع). وكانت نتيجة الاستفتاء أكثر من98%. وقد أطلق البعض علي عام تعديل المادة(77) في أواخر زمن السادات اسم عام البغلة بسبب خطاب شهير لفضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري, رحمه الله, قال فيه ما معناه إن السلطان هو ظل الله علي الأرض, وظل الله له حرمة ومهابة, فلا يجوز المساس بالسلطان أو الإساءة إليه بكلمة, حتي إن بعض الفقهاء قالوا: إذا كان السلطان يركب بغلة وذيلها مقطوع, فلا يجوز التهكم عليه لأنه ذيل بغلة السلطان, فكيف بالتهكم علي السلطان نفسه.....؟! والطريف, فيما علمت من مقالات نصار عبد الله( المنشورة في موقع الحوار المتمدن) أن الاقتراح الخاص بتعديل المادة(77) قد تقدمت به مجموعة من نائبات مجلس الشعب, هن: نوال عامر وكريمة العروسي وفايدة كامل. وقد وافق المجلس علي اقتراح النائبات, وتولي تعديل المادة, وتقديمها للاستفتاء مشفوعة بالنص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وهي شفاعة ترضي تيارات الإسلام السياسي, وتجعلهم يقبلون تعديل المادة(77) من أجل تعديل المادة الثانية التي توقعوا أن تصب في مصلحتهم, وتكون بداية دستورية واعدة لتأسيس دولة دينية, بعد أسلمة القوانين. ولكن حكم المحكمة الدستورية أحبط توقعهم, وأفرغ المادة من مخاطرها العملية المباشرة. وقد أرسلت لي زميلتي الدكتورة زينب رضوان, وكيل مجلس الشعب, خطابا مطولا يبرر إبقاء نص هذه المادة في تعديلات دستور مارس2007 التي شاركت فيها. وكان تبريرها يقوم علي نقطتين, الأولي: أن هذه المادة محددة بالمادة الأولي السابقة عليها والتي تقول إن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة. وهذا يعني أن المادة الأولي من الدستور تحدد مفهوم المادة الثانية في إطارها, وذلك بما يجعل النص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع مفهوما في إطار مبدأ المواطنة الذي هو مبدأ لا يمايز بين مسلم وغير مسلم أمام القانون. أما النقطة الثانية فتتصل بضرورة التفرقة بين مباديء الشريعة الإسلامية والفقه. فالمباديء هي كما نص حكم المحكمة الدستورية العليا قطعية الدلالة قطعية الثبوت. أما الفقه فهو نتاج فكري وأحكام استنباطية ليست قطعية الدلالة ولا الثبوت, وإنما هي مباديء واجتهادات بشرية تمثل روح التطور التشريعي في الإسلام, وتغيره حسب تحولات المجتمعات بما لا يعطي للفقه, قط, صفة القداسة أو حتي صفة القطعية في الدلالة والثبوت. وتوضح الدكتورة زينب أن الفقه يستمد مصداقيته من اعتماد أحكامه علي نصوص واضحة, أمافيما عدا ذلك فكل شيء مفتوح في باب الاجتهاد المحكوم بالمباديء الكلية للشريعة. ولذلك أجاب الإمام أبو حنيفة عن سؤال تلميذه: هل هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟ بقوله: والله لا أدري؟! فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه. وهذا هو بعض ما يقصد إليه الحديث الشريف: يبعث الله علي رأس كل مائة عام من يجدد لكم أمور دينكم. وهو حديث لا تفارق دلالته الأساسية معني حتمية الاجتهاد, وضرورة التجديد فيه مع تغير المجتمع والحياة. وهذا ما فعله أئمة محدثون ابتداء من الإمام محمد عبده, وليس انتهاء بشيخ الأزهر الحالي, المهم أن أحكام الفقه فيما عدا العبادات هي اجتهادات بشرية, يمكن الاختلاف فيها بين علماء المسلمين لصالح المسلمين, ما ظل اختلافهم رحمة. وتؤكد الدكتورة زينب رضوان, فضلا عن ذلك, أن مباديء الشريعة خمسة من هذا المنطلق هي:1 المساواة2 الحرية3 العدالة4 التكافل الاجتماعي5 احترام كرامة الإنسان. وهي مباديء تؤكد وحدة الجنس البشري من حيث المنشأ والمساواة في القيمة الإنسانية, والتسوية المطلقة بين البشر جميعا, واحترام كرامتهم, والتكريم للإنسان مطلقا, بغض النظر عن لونه أو دينه أو حسبه أو نسبه أو ثروته, فاحترام الإنسان وتكريمه مطلقا هو أصل من أصول مباديء الشريعة بحكم قوله تعالي في سورة الإسراء( آية:70): ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا. ومبدأ الحرية يبدأ من حرية الإنسان في اختيار عقيدته, وينتهي بحريته في اختيار أفعاله بكل ما يترتب عليها, ومن بينها اختيار الحاكم والنظام السياسي الذي يحقق العدل والتقدم للمواطنين جميعا دون أي نوع من أنواع التمييز. ويقترن بذلك: العدل بكل معانيه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعرفية. وهو مبدأ يتجانس والتكافل الاجتماعي, خصوصا بأشكاله المادية والمعنوية, وهي أشكال لا تتعارض مع حرية الفرد الاقتصادية, ولكنها توازن بينها وحق الجماعة في مال مترفيها الذين ينبغي أن يرعوا فقراءها. المزيد من مقالات جابر عصفور