يمكن القول إن المحاولة الفاشلة التي قام بها النيجيري عمر فاروق عبدالمطلب لتفجير إحدي الطائرات الأمريكية عشية رأس السنة الميلادية الحالية تدفع إلي إعادة النظر في خريطة التوجهات الإسلامية الجديدة السائدة في إفريقيا. والتي تمتد لتشمل اليمن باعتبارها منطقة جيوسياسية متكاملة تمثل بؤرة كبري نظرا لاختراقها من قبل التنظيمات الإسلامية التي تتبني خطابا راديكاليا عنيفا. بل إنه منذ منتصف تسعينات القرن الماضي, شهدت هذه المنطقة أحداثا دامية ارتبطت بتنظيم القاعدة مثل تدمير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام. علي أن خبرة العام الماضي تشير إلي تصاعد وتيرة أعمال العنف المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي, فقد اضطرت الجماعة السلفية للدعوة والجهاد تحت وطأة الضربات الموجعة التي وجهتها لها العسكرية الجزائرية أن تتجه جنوبا حيث اتخذت قاعدة لها في صحراء مالي, كما أنها توجهت كذلك صوب موريتانيا, وقامت باختطاف أحد المبشرين الأمريكيين وقتله, بالاضافة إلي تنفيذ عملية انتحارية في نواكشوط, وقد دفع ذلك كله إلي القول بأن إفريقيا أضحت تمثل فضاء مفتوحا في إطار ما يسمي بالحرب العالمية علي الإرهاب. فما الذي دفع بأفريقيا التي توصف بأنها قارة السلام, وعرفت تاريخيا بأنها أرض التسامح الديني لكي تقع تحت تأثير نمط جديد من الخطاب الإسلامي الراديكالي يدعو إلي تغيير السياقات المجتمعية السائدة بالقوة والإكراه المادي؟. فالظاهرة الإسلامية عموما في تقاليدها الحركية الإفريقية قد انحصرت في نموذجين أساسيين أولهما النموذج الإحيائي الإصلاحي والثاني: هو النموذج التبشيري الدعوي. فالأول يحصر نشاطه وحركته في إطار جماعته المسلمة المحلية, في حين يسعي الثاني إلي نشر رسالة الإسلام والتبشير بها بما يمكنه من اكتساب أرض جديدة. وعليه فإن النموذج الثاني يتجاوز إطار المحلية بغية تحقيق الوظيفة الجهادية من خلال نشر الدعوة. ويبدو أن خبرة العقدين المنصرمين قد أفرزت خطابا جديدا في إفريقيا الاسلامية يصطدم من خلال قناعاته الفكرية بنظم الحكم السائدة ويسعي إلي تغيرها عنوة كما أنه يعادي الغرب ويحاول التخلص من هيمنته الثقافية علي بلاد المسلمين. ولعل ما يثير الدهشة أن المجتمعات الإسلامية الأفريقية جنوب الصحراء علي الرغم من توجهاتها الإسلامية المحافظة تتسم بدرجة عالية من التسامح والاعتدال الديني. فقد شهدت, ولا تزال, هيمنة للخطاب الإسلامي بتقاليده الصوفية الرصينة. وربما يدعو ذلك إلي القول بأن الخطاب الإسلامي الجديد الذي يدعو إلي التحريض والعنف يرتبط بعوامل وتغيرات دخيلة علي الواقع الأفريقيه وأيا كان الامر فإن التوجهات الاسلامية الجديدة التي اخترقت الصحراء الافريقية بحثا عن الملاذ والأنصار تطرح تحديا خطيرا ينبغي الوقوف مليا عنده, والتبصر في أسبابه ونتائجه. ونستطيع في هذا السياق أن نشير إلي عدد من العوامل والمحددات التي أسهمت في تسهيل عملية تنامي هذه التوجهات الإسلامية غير المألوفة إفريقيا. أولا: ضعف مراكز السلطة وانهيار الدولة. فيلاحظ أن منطقة شرق إفريقيا التي تمتد من السودان وحتي تنزانيا, وكذلك منطقة ساحل الصحراء وغرب إفريقيا التي تربط ما بين خليج عدن وخليج غينيا تضم العديد من الدول التي يطلق عليها فاشلة أو غير قادرة علي القيام بوظائفها الأمنية والتوزيعية. كما أنها تشهد وجود بعض الدول المنهارة مثل حالة الصومال الذي يفتقد وجود سلطة مركزية فاعل منذ عام1991 ولا شك أن عجز أنظمة الحكم القائمة وسيادة أوضاع عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاجتماعي تؤدي إلي خلق بيئة لتأسيس هياكل غير رسمية للسلطة. فمن الشائع في هذه المنطقة وجود فاعلين من غير الدول, ويحظون بمراكز مهمة للتأييد السياسي في مجتمعاتهم. ثانيا: عدم السيطرة علي الحدود, إذ يلاحظ أن وجود الدولة في المناطق الحدودية يكون رمزيا وغير فاعل, وهو ما يسهل من عمليات التهريب والاختراق. وينطبق الأمر ذاته علي الحدود البحرية للدول الإفريقية, حيث تكون المراقبة البحرية محدودة. وقد ترتب علي ذلك كله أن أصبحت منطقة خليج عدن في شرق إريقيا. ويرتبط بذلك سهولة الحصول علي الأسلحة غير المشروعة. فثمة شبكات من التجار والدول التي تقوم بتوفير الأسلحة لكافة الجماعات والأفراد الذين يطلبونها. ثالثا: ظهور الجماعات الإسلامية الراديكالية المعادية لنظم الحكم القائمة والرافضة للهيمنة الغربية علي مقدرات مجتمعاتها. وتتراوح هذه الجماعات بين سلفية تكفيرية مثل جماعة بوكو حرام النيجيرية التي تعني بلغة الهوسا, تحريم التعليم الغربي, أو جهادية مسلحة ذات ارتباط بتنظيم القاعدة مثل الجماعة السلفية للدعوة والجهاد. ويلاحظ أن هذه الجماعة الأخيرة قد اضطرت في عام2007 تحت ملاحقة الجيش الجزائري أن تتخذ ملاذا آمنا لها في الصحراء الإفريقية, وأن تعلن ارتباطها ولو نظريا بتنظيم القاعدة. رابعا: نزوح أعداد كبيرة من جماعات العنف الإسلامي والأئمة الذين يرون بضرورة إقامة الدولة الإسلامية عن طريق الجهاد, إلي شرق موريتانيا, وشمال كل من مالي والنيجر وجنوب تشاد وحتي منطقة خليج غينيا, بالإضافة إلي منطقة القرن الإفريقي بامتداداتها الإقليمية. ونظرا لضعف هذه الدول وعدم قدرتها علي التحكم في حدودها, فضلا عن وجود بؤر توتر وصراع داخلي بها, فإنها تمثل بيئة خصبة لهذا الاختراق. ولعل غياب مفهوم الدولة الوطنية القوية التي تحظي بالشرعية في أعين مواطنيها قد جعل من عملية الترويج لأفكار جهادية عنيفة أمرا ميسورا لكثير من الجماعات الإسلامية. خامسا: تجارة الماس غير المشروعة التي تستخدم في تمويل أنشطة إجرامية وإرهابية تؤدي إلي مزيد من التوتر وغياب الأمن في المنطقة. ولعل تجارب دول مثل ليبيريا وسيراليون تؤكد وجود ظاهرة الماس المخضب بالدماء, أي الذي يستخدم في شراء الأسلحة وتمويل الصراعات المسلحة. وربما يرتبط بذلك أيضا ظاهرة اختطاف الرعايا الأجانب والغربيين تحديدا, مقابل المطالبة بفدية مالية, وذلك من أجل الحصول علي التمويل اللازم لهذه الجماعات العنيفة. علي أن بعض الدلائل تشير إلي ارتباط هذه الظاهرة ببعض الجماعات الإجرامية التي تهدف فقط للحصول علي المال, ولا تستبطن أي أهداف سياسية أو أيديولوجية. سادسا: قيام جماعات التطرف بالاستفادة من منتجات عصر التكنولوجيا الحديثة. فالهواتف النقالة التي تعمل بالأقمار الصناعية ونظام تحديد المواقع الجغرافيةGPS قد جعلت من السهولة نسبيا اجتياز الصحاري والتضاريس الوعرة. وعليه فقد أوضحت عمليات التهريب والتجارة غير المشروعة أمرا شائعا لتمويل كافة العمليات غير القانونية. وتشير بعض التقارير الاستخباراتية إلي أن بعض دعاة التطرف الإسلامي قد لجأوا إلي مناطق القبائل البدوية وتزوجوا من نسائهم وعاشوا بين ظهرانيهم طلبا لحمايتهم. ولا شك أن انتشار الفقر والمرض في إفريقيا جنوب الصحراء قد أدي إلي اعتماد حكوماتها علي العون الدولي. بيد أن ذلك قد أفضي في ذات الوقت إلي إشعال روح التطرف والميل إلي استخدام السلاح. وعادة ما يميل الخطاب الإسلامي المتطرف إلي تفسير حالة التخلف التي تعاني منها هذه المجتمعات بأنها ناجمة عن البعد عن الشريعة الإسلامية, وعدم إقامة الدولة الإسلامية. وإذا كان سؤال ما العمل يطرح نفسه بقوة لمواجهة هذا الخطر الجديد الذي يداهم القارة السمراء المثقلة اصلا بهمومها وقضاياها الملحة, فإن منهج التعامل يمثل المدخل الأهم لعلاج هذه الظاهرة. إذ لا أظن أن منهج التعامل الأمني, أو ما يطلق عليه برنامج مكافحة الإرهاب هو الأصح. فالمفروض تبني رؤية شمولية للتعامل مع كافة قضايا المنطقة بكل ما تشمل عليه من بؤر داخلية للتوتر والصرع. ويدخل في ذلك مشكلات شعب الطوارق والعفر والصومال وكافة الجماعات والقبائل التي تعاني من التهميش والإقصاء في مجتمعاتها. وتصبح, والحالة هذه, مسألة اقتسام الثروة والسلطة علي أساس من العدالة والمواطنة المدخل السليم لإعادة بناء الدولة الوطنية التي تحظي بالشرعية في أعين مواطنيها. وهذا هو التحدي!.