قبل يومين, أيقظوني آخر النهار لأن الكتب جاءت, وأنا أسرعت إلي الشرفة ونظرت أسفل العمارة ورأيت عربة النقل وهي محملة بالكراتين المغلقة, حينئذ عدت إلي الصالة وجلست في ركنها كمن يتفرج علي التليفزيون. , ورحت أتابع الرجال وأري الواحد منهم يحمل كرتونة الكتب علي كتفه ويغيب داخل الحجرة بالغة الاتساع تحت إشراف السيدة زوجتنا, تعاونها زوجة البواب الشابة ثم أراه وهو يغادر خاليا ليعاود الكرة من جديد..وهكذا والحكاية أنني عندما انتقلت إلي المقطم قبل ست سنوات تركت كتبي في مسكني القديم بامبابة, قانون الإيجار الجديد يجعل المواطن منا مثل جالس يهم بالقيام, وأنا لم يكن بوسعي أن أنقل هذه الكتب إلي مسكن قد أتركه مرة تلو أخري. أمر يتطلب طاقة لم تعد في الإمكان. أبناء جيلي, هؤلاء الذين كانوا يمشون ويركبون ويفتشون عن كتب جاءهم خبر أهميتها من الأرصفة والأكشاك والمكتبات والحج من أجلها كل يوم إلي سور الأزبكية الهائل. بهجة المدينة الذي اغتاله من لايعرفون. أبناء جيلي هؤلاء يعرفون ان لكل كتاب ذكري ووراء كل كتاب حكاية, حتي ليمكنك القول بأن سيرة حياة كل واحد منهم هي سيرة ما جمعه من الكتب, بل إن بعض الناس مازالوا يعيشون في الذاكرة فقط لأنهم كانوا سببا في معرفتنا أحد الكتب الجيدة. المهم أنني تركتها في امبابة وجئت المقطم عاريا. -4- كنت أذهب إلي هناك وأطل عليها بين آن وآخر أحمل كتابين أو ثلاثة وأعود, ولم يمر العام حتي تكونت مكتبة أخري صغيرة واكتشفت ان بوسع الواحد ان يعيش وقد تحرر حينا من تلال هذه المعارف القديمة ووطأتها, ثم توجب علينا ان نخلي الشقة القديمة لصاحب البيت الذي تمني ان يزوج أحد أبنائه,كان هشام قد تزوج في شقته بالمقطم, أما شادي فقد أغلق شقته تحت التشطيب أسفل شقة شقيقه, ورأينا ان نجمعها في كراتين وننقلها إليها. أنا لم أذهب, طلبت منهم فقط ان يتركوا المجلات والدوريات والجرائد القديمة لمن يريد من اشقائي وان وألاينزعوا أرفف المكتبة الخشبية التي تغطي جدران الحجرة والتي كنت قد صنعتها بنفسي, رحت أتابع العمل بالتليفون وعند منتصف الليل أخبروني أنهم ذهبوا بها إلي شقة شادي, علمت أنها شغلت الصالة وحجرة النوم( مائة وستون كرتونة) وعندما أذهب لزيارة هشام أمر علي الشقة المغلقة, يعرضون علي ان يفتحوا الباب لألقي نظرة إلا أنني لم أرها أبدا في أكفانها الجديدة هذه. ظلت الكراتين هناك لنحو خمس سنوات والآن جاءوا بها إلي هنا. -5- عندما انتهوا من الدخول والخروج وتقاضوا أجورهم قمت واقفا إلي الحجرة الكبيرة ورأيتها مكومة وعالية مثل هضبة في الجانب الأيسر بعض الكراتين متفرقة في المساحة الخالية من الحجرة أمام فراشي الصغير. وهناك كومة من الملفات والدوسيهات والحقائب الضيقة المتربة, لم يكن بوسعي أن أحرك كرتونة صغيرة من مكانها لأن الكتب ثقيلة مثل الماء. كانت بعض الكراتين قد تفجرت جوانبها عن بعض الكتب التي رحت أقلب فيها وأستغرق. وأعيد قراءة السطور التي وضعت تحتها خطوطا بقلمي الرصاص. بينما زوجتي وزوجة البواب تنقلان بعض الأغراض من هنا إلي هناك, هذه ليست زوجة البواب الحالي لكنها انتصار زوجة منصور القديم وهي تأتي مرة كل أسبوع وكانت قد التقطت صورة ملونة وقعت من أحد الملفات وهي ظلت في مكانها بقامتها المعتدلة تتطلع فيها ثم قربتها من وجهي, كنت أجلس شابا في ثوب رياضي ملون والولد هشام يجلس علي مسند المقعد والكتب الموجودة في الكراتين الآن تغطي الأرفف الخشبية من خلفنا, القيت نظرة علي الصورة وهززت رأسي ثم انشغلت فيما كنت فيه شعرت بها قربت الصورة من وجهها وراحت تتأمل طويلا وقد ظهر عليها الأسي كمن يوشك علي البكاء. وعندما اقتربت زوجتي, انتحت بها جانبا وهمست والصورة في يدها: شوقي عم الحاج كان عامل ازاي؟ ومضت فترة صمت ثم همست: -تلاقيه في الوقت ده كان داخل في الستين. وزوجتي همست: لا كان في الأربعين. -6- يتهامسون. يظنون أنني, مادمت أجلس هكذا بين الكراتين المتربة في مباذلي المنزلية الرثة, قد أكون ذاهلا, بينما حقيقة الأمر أنني أكون دائما شديد اليقظة لكل ما يدور من حولي. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان