لقد اجتهدنا في مقالنا السابق بطرح تصور لدعائم تأسيس بيت المعرفة العربي متجسدة في ثلاثية من الموارد الأساسية. أولها منظومة تعليمية تتيح فرص التعليم الجيد للجميع, وثانيها إرساء قواعد البحث الخصيب في مجالات العلوم والتكنولوجيا المختلفة وتوظيف نتائجها, وثالثها التجديد والدعم لمقومات الإنتاج الثقافي والإعلامي والفنون والتراث الحضاري وقيم العيش المشترك. ويترسخ إنتاج هذه الموارد بتفاعلها في سياق مجتمعي تسود أجواءه تيارات حرية الرأي والتعبير, والتمكين لفواعل التعاون والتكافل العربي, والإفادة الواعية من منجزات المعرفة العالمية دون عقد أو انغلاق. ومن خلال رؤية بصيرة وجهد مثابر يتحقق لنا عبر الزمن رصيد من رأس مال معرفي متراكم يمثل ذخيرة متنامية لقواعد هذا البيت, وساعتها سوف يتوافر لدينا قسط متزايد من إمكانات المجتمع المعلم والمجتمع المتعلم, أو مجتمع المعرفة. ومن تقييم محصلة تلك الدعائم والأجواء الحالية في الأقطار العربية يتضح أننا لم نطرق أبواب مجتمع المعرفة, أو أننا في أحسن الأحوال نطرقها بتردد وتناقضات أو جذاذات وترقيعات, أو تزييف وادعاءات. ويتضح ذلك من مؤشرات كل التقارير القطرية والإقليمية والدولية للتنمية البشرية, كما يتضح من التقارير السنوية التي يصدرها معهد التخطيط القومي في مصر, أو مايصدره برنامج الأممالمتحدة الإقليمي من تقارير عن التنمية الإنسانية أو من بيانات المنظمة العربية للتعليم والثقافة والعلوم, أو من تقرير المعرفة العربي لعام2009, أو ما تصدره مكتبة الإسكندرية في مرصد الإصلاح العربي. ولايتسع المجال هنا لإيراد عديد من المؤشرات الدالة علي مستوي التدني في موارد المعرفة وأجوائها المجتمعية في عالمنا العربي, مع تفاوت محدود في مستويات التدني فيما بينها. ففي مجال التعليم مثلا نلحظ أنه في عام2007 أن معدل التمدرس(أي نصيب الفئة العمرية من السكان فيما بين25 سنة فما فوق مما أتيح لهم تعليم منظم خلال سنوات حياتهم) لم يتجاوز5 سنوات بينما يبلغ أكثر من7 سنوات في كوريا الجنوبية والأرجنتين وإسرائيل. ويتجاوز هذا المعدل ليصل إلي ما بين8 9,5 سنة في الدول المتقدمة( الحد المعياري الأقصي10 سنوات). ثم إن معدل الحاصلين علي تعليم عال في قوة العمل العربية لايتجاوز11%, بينما البقية لاتحظي إلا بتعليم متوسط أو أساسي. أضف إلي ذلك نحو27% من الأميين الذين يبلغ عددهم في تلك السنة نحو(60 مليونا). وفي هذا الصدد يؤكد عالمنا الجيولوجي الجليل د.فاروق الباز بأننا لو سعينا إلي مقارنة أنفسنا مع معظم الأقطار في العالم( سنجد أن نصيبنا من العلم والمعرفة قد أنحسر بدرجة خطيرة. كل فرد في الدول التي تقدمت يقرأ مالايقل عن عشرين كتابا في العام الواحد, أما في العالم العربي فإن كل80 شخصا يقرأون كتابا واحدا كل عام). ويعلق علي ذلك بقوله(إن أمة اقرأ لاتقرأ) إشارة إلي أول أية نزلت في قرآن رب العالمين. ومع هذه الصورة البائسة من تدني أوضاع التعليم والتثقيف يصبح الحديث عن التجويد والتجديد والإبداع وتأسيس لمقومات الديمقراطية مجرد أضغاث أحلام, أو تزييف للوعي الجماهيري. أما عن دعامة البحث العلمي واقتحام مختلف مجالاته العلمية والتكنولوجية والاجتماعية وما بينها من تشابكات, فإن واقعه أكثر إحباطا من حيث ما يستحقه من أولوية, أو ما يتمخض عنه من انجاز وتوظيف في مجالات الإنتاج الاقتصادي أو الخدمي. وتكفي الإشارة للدلالة علي فقر إمكانات البحث العلمي تلك القلة القليلة من براءات الاختراع المسجلة باسم جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية. ويعزي ذلك إلي ضآلة مايتاح لها من موارد منسوبة إلي الناتج المحلي الإجمالي التي لم تتجاوز0,6% في أحسن التقديرات والسنوات, بينما تصل إلي ما بين2% 4% في كثير من الدول النامية في آسيا وأمريكا اللاتينية, ولا داعي لمقارنة مع الدول المتقدمة. ولن يتسع المجال هنا إلي بيان أحوال الأجواء الثقافية والمجتمعية المتفاعلة والمهيئة لتأسيس بيت المعرفة العربي بخاصة من ظروف آفاق الحرية والتجديد في مختلف عناصر بنيته الأخري المتمثلة في بيروقراطية خانقة, وفي طرق التعلم والتثقيف التي تؤثر تخدير الألفة, ومن حيث إذعانها لما يفرض عليها من قيود السلطة وتوجهاتها, دون هضم أو نقد أو تطوير. أضف إلي ذلك ما تتعرض له اللغة العربية خامة التفكير والتعبير من تدهور وانكماش في تنافسها مع طغيان اللغات الأجنبية في مجالات التعليم والثقافة وسوق العمل. والحاصل إن قضايا الثقافة والإعلام والفنون وقيم المواطنة والتراث تعج بالإضطراب والخلل والمتناقضات بين توجهات الأصالة والمعاصرة, وبين الإبداع والإتباع, وبين المطلق والنسبي, وبين الثراء الفاحش والفقر المدقع, وبين ضرورات العيش المشترك والتفكيك والتوترات علي أساس العصبيات القبلية والطائفية, وبين شيوع قناعات تديين السياسة والدولة المدنية. وعلي المستوي العربي يشيع اضطراب العلاقات والمصالح والنفوذ القطري في مواجهة القضايا القومية. هذا إلي جانب المفارقات المحزنة في مواقفها من الثقافات الأخري. ولهذه الأجواء العكرة والمعتمة آثارها المدمرة في محاولات تأسيس بيت المعرفة العربي, أهم موارد الاستثمار في تنمية شاملة مستدامة. أما بعد: ذلكم عرض مختصر لأهم مفاهيم وتوجهات بناء بيت المعرفة العربي, وأكثر مؤشرات تدنيه وجموده خطورة. وأحسب أننا قد استنفدنا مناسبات التشاؤم واليأس, وعلينا أن نتفادي وقوع الكارثة من خلال تعبئة قطرية وعربية شاملة لإيقاف التدني والتردي في مقومات ذلك البيت الذي يعتبر تأسيسه فرض عين لبقائنا ونمائنا في عالم اليوم والغد. وكفانا من العمل المنفرد قطريا أو جزئيا قطاعيا لايمسك بالواقع في تعقده, مستسلمين في أمورنا لجهود مسئولين يغني كل منهم علي ليلاه. لامفر إذن من رؤية عربية شاملة ومنظور استراتيجي تتحدد فيه القبلة ومسارات الطريق الرشيد المشترك تحقيقا لمجتمع عربي أكمل وأعلم. ونأمل في هذا الصدد أن يتحقق مشروع انعقاد قمة ثقافية عربية خلال هذا العام لتكون بداية طيبة في متابعة استكمال طموحاتنا الملحة في تأسيس بيت المعرفة العربي.