كتب : علي السيد : يظل الصعيد هامشيا في الدراما, ويظل مجرد فولكلور يعتمد علي العمة والجلباب والعباءة واللسان المعوج. فأنت حين تجلس أمام شاشة التليفزيون تتابع مسلسل عن الصعيد. كأنك تجلس في قطار سريع ومكيف, يشق بطن الصعيد, وعبر نافذة محكمة الغلق تري رجل فوق حمار, وأخر يحمل فأسه,وامرأة متشحة بالسواد وفوق رأسها مقطف فيه هم وزاد ديناهاثم يعبر القطار فوق النهار, ويصبح البشر كاعمدة الإنارة والتليفونات, مجرد أشياء تعوق الرؤية. ومنذ بدأت الدراما التليفزيونية في مصر, وهي تضع عينها علي الصعيد حتي لو حضر الاسم الصعيد وغابت الحقيقة.. مجرد اسم مغري دراميا بغض النظر عن الموضوع.. اسم غامض, وحوله حكايات تزيد من غربة وغرابة أهل الصعيد, لايأخذ منهم بل يعطيهم مايزيد احتقانهم وحنقهم علي أهل العاصمة خصوصا هؤلاء الكتاب الغارقون في تزييف واقع الجنوب كنا في الجنوب نشاهد, لنضحك ونتسلي, المسلسلات التي تدعي التعبير عن الصعيد عبر تليفزيون14 بوصة أبيض وأسود يعمل بالبطارية حين كانت أسلاك الكهرباء تعرب فوق رؤوسنا لتنير بيوت الشمال بينما نبدد عتمة الليل في قرانا بملمبات الكيروسين. كانت هذه المسلسلات بالنسبة لنا كالسفن السياحية التي تمر من أمامنا وعلي سطحها سائحات بلباس البحر. هكذا ظلت الدراما تتجرأ وتكذب وتنقل عن الصعيد, من المسلسل الذي كان بطله يسمي هراس إلي مارد الجبل إلي عشرات المسلسلات المزيفة للوعي والمدمرة للعادات والتقاليد, الغارقة في الثأر والتهريب وحكايات المطاريد إلي أن قدم محمد صفاء عامر رائعته ذئاب الجبل المسلسل الذي غاص في العمق وأمسك بالوجع الحقيقي, وقدم موطن الخلل وكان أول مسلسل يناقش قضايا معقدة وشائكة وحساسة جدا, ورصد بوعي الطبيعة القبلية للصعيد وانعكاس ذلك علي كل مناحي الحياة, فضلا عن أن ذئاب الجبل أول عمل درامي يقترب من اللهجة الطبيعية والحقيقية لأهل الصعيد. ثم اتحفنا عبد الرحيم كمال, في العام برائعته الرحايا الذي قدم من خلاله إنسان الصعيد بما فيه من نل وشر, وعنف وطيبة, غضب وصبر, قوة وصعف, شهامة وخسة, أمنة وخيانة. كان عبد الرحيم كمال اقتطع جزءا منالصعيد وقدمه علي شاشة التليفزيون: بشر عائدون من غيطانهم, بشر يمارسون الشر كأنه فريضة.. بشر الموت أخر همهم, بشر صناعتهم المكائد, بشر الحق بندقية في زراعهم, بشر الكذب نار لايقتربون منها. لكن عبدالرحيم أغواه النجاح. فقدم هذا العام عملا كان يمكن أن يكون عظيما لو لم يتمسح في التاريخ, ويغرق في حكاية مختلف عليها. ولو محمد صفاء عامر, أولا وعبد الرحيم كمال ثانيا لظلت الدراما التليفزيونية تهيل التراب وتنشر العتمة وتكذب علي الناس باسم الصعيد, ولظل عشرات الكتاب يكتبون مسلسلات وأفلام عن الثأر وتجار السلاح, وقاطعي الطرق, ولصوص الآثار, ونشأة الإرهاب من خلال رحلاتهم الي الأقصر وأسوان ورؤيتهم للصعيد من شباك القطار أو من خلال ماتنشره الصحف عن احداث نصفها مصنوع إن لم تكن كذبة كاملة كمسلسلاتهم.